هموم ثقافية

الثقافة اللازوردية

ذات يوم، اتصل بي مدير المسارح والموسيقا، قال: أنا أتحدث باسمي وباسم السيد وزير الثقافة، ثم أردف: بحثنا اﻷمر مطولًا ولم نجد من هو أفضل منك بمعرفة التاريخ ودهاليزه، ولذلك؛ قررنا تكليفك بإخراج مسرحية “ﺍﻟﻼﺯﻭﺭﺩﻱ“! قلت مستغربًا: “عفوا!؟ مسرحية شو!؟” فكرر بثقة: ﺍﻟﻼﺯﻭﺭﺩﻱ…

ما أعرفه أن كلمة لاَزَوَرْدِيٌّ -كما وردت في القواميس العربية- مأخوذة من اللاَّزَوَرْد: “وهو معدن يُتَّخذ للحليّ، وأجوده الصَّافي الشفَّاف الأزرق الضَّارب إلى حمرة وخضرة، وله منافع في الطِّب…”. قلت: ما سمعت ﺑﻤﺜﻞ هذه المسرحية من قبل، هل هي مترجمة.؟ قال: “لا! شو مترجمة؟ مسرحية سورية لكاتب سوري كبير جدًا”.. قلت: آآآ.. ظننت انها لكاتب صغير؟ قال من دون أن ينتبه لسخريتي: “لا، هي جديدة طخ، عن رمز من أشهر رموز الصوفية في التاريخ الإسلامي”… قلت: أشهر رموز الصوفية! ﺭﺑﻤﺎ تقصد السُّهْرَوَرْدي؟ ﻓﺘﻀﺎحك وكركر وشهق ونهق، وهو يلفظ اسم السهروردي، هذه المرة -أيضًا- ﺑﺸﻜﻞ غير ﺻﺤﻴﺢ: نعم، نعم، ﺍﻟﺴﻬرﻭﻭﺭﺩﻱ.. صحيح.. أحسنت”… وراح يشرح لي بإسهاب ابن خلدون وحماسة أبي تمام، بأنها ﻣﺴﺮﺣﻴﺔ تاريخية ﺭﺍﺋﻌﺔ، وبأنها ستعرض في مهرجان “حلب عاصمة الثقافة اﻹسلامية” وقد كُتبت -خصيصًا- لتلك المناسبة العظيمة، وأن سيادة الوزير، السيد، مهتم شخصيًا بهذه المسرحية وكاتبها…

صمت… شعرت بالخجل من مديرٍ للمسارح والموسيقا، يجهل اسم شهاب الدين عمر السهروردي البغدادي (أبو حفص)، ملهم المفكر والفيلسوف الشيخ محي الدين بن عربي.

كنت أعلم أن مدير المسارح فنان، ليس من الدرجة الرابعة فحسب؛ بل مثقف من الدرجة الرابعة أيضًا! فبعد إمبراطورية مدير المسارح (الفضية) التي انهارت مع انهيار ولاية وزيرة الثقافة (العطرية) التي استمرت ربع قرن تقريبًا، تناوب -فجأة- على إدارة مديرية المسارح عدد كبير من أشباه خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية، بمعدل مدير كل ستة أشهر؛ وكان آخرهم مصور فوتوغرافي من الدرجة الرابعة أيضًا..

سألت المدير الجديد: من الكاتب.؟ قال: الكاتب الكبير والأستاذ القدير عبد القلّاع فتحجي… ظننته يمزح فقلت: يا أستاذ! قد يخطئ المرء باسم السهروردي الشهيد، ولكن هل يخطئ باسم كاتب مثل عبد المفتاح الفظيع الذي كان اسمه على كل شفة ولسان في مدينة حلب وأخواتها، وتكاد لا تجد مقالًا الا باسمه ولا منبرًا يعتليه أحد غيره، ولا لجنة تحكيم لم يكن عضوًا فيها، ولا مهرجانًا مسرحيًا أو قصصيًا أو روائيًا أو تراثيًا، محليًا أو عربيًا أو دوليًا، إلا وكان فارسًا من فرسانه… ألم تقل –قبل قليل- بأنه الكاتب الكبير والأستاذ القدير…. أخي، أعتذر، ليس لدي وقت، فقال: “له، له، شو تعتذر.. السيد الوزير… فقاطعته: أولًا عبد المفتاح هذا ليس كاتبًا، لا مسرحيًا ولا حتى صوفيًا! ثانيًا: يبدو انك لم تقرأ المسرحية، مع أنها مركونة فوق مكتبك! وما أظن أن السيد الوزير قرأها! فكيف تشيد بها وتتخذ قرارا بشأنها؟ قال هاتفًا: أحسنت.. والله أحسنت.. إنها أمامي منذ يومين، لم تسمح لي كثرة الأشغال بتصفحها، لكن  السيد الوزير قرأها، أنا متأكد من ذلك.. أخي، اقرأ المسرحية أولا ثم قرر…

 

بعد قراءتي للنص وجدته سيئ المبنى والمعنى، مليئًا بالشطحات الصوفية والخرافات والخزعبلات الدارجة، فاشترطت أن أقوم بإعداده، وأن يتم ذلك بمعرفة وحضور الكاتب شخصيًا، وكان لي ما أردت. قمت بتحويل مقولة العرض كلها، إلى: “مأساة الفكر في ظل الاستبداد”، وتحويل السهروردي من مجرد مشعوذ -كما قدمه الباحث والناقد والكاتب المسرحي والقصصي والروائي الكبير اﻷستاذ عبد المفتاح الفظيع- إلى واحد من أولئك المبدعين الكبار في تاريخنا القديم والمعاصر الذين فكروا واجتهدوا، فقتلوا بتهمة الزندقة أو الهرطقة أو العمالة…

كلف العمل ملايين الليرات السورية، وشهورًا مضنية من التدريبات والجهد المتواصل، لكنه في نهاية المطاف، مُنع من العرض في حلب، عاصمة الثقافة اﻹسلامية، فقبل عرضه في دمشق، حضرت لجنة من مديرية المسارح، برئاسة مديرها “اللازوردي” واعترضت على معلومة تاريخية معروفة، ذكرت في المراجع التاريخية كلها تقريبًا، وهي أن الناصر صلاح الدين اﻷيوبي هو من أمر بقتل السهروردي، بتحريض من رجال الدين في حلب الذين حاكموه وأفتوا بقتله، وذلك خوفًا على ابنه الفتي، الظاهر غازي الذي كان معجبًا بالسهروردي، وكان -حينئذ- صاحب حلب. قلت لهم: هل أغير لكم التاريخ كي ترتاحوا!؟ فقالوا: نعم، “لازم نغيرو”؛ لأن السيد الرئيس الخالد، يعدّ صلاح الدين قدوة له…

لم أغير التاريخ طبعًا! فهو لا يتغير. عُرضت المسرحية عشرة أيام فقط، على خشبة مسرح الحمراء بدمشق، ثم أُوقفت إلى الأبد…

والأنكى من ذلك أن الأستاذ الكاتب، عبد المفتاح الفظيع، غضب وأرعد وأزبد وتوعد، محتجًا على العرض، لأن المخرج خرّب نصه وشوهه…

 

عندما سألوه -بعد صدور الحكم  بقتله- كيف ترغب أن تموت؟ قال السهروردي: “صبرًا”.

رموه في الجب اﻷحمر بقلعة حلب، حتى مات عطشًا وجوعًا… أطلق عليه أنصاره اسم الشهيد، وتحول ضريحه إلى مسجد..

ولد السهروردي “شهاب الدين بن يحيى” في سهرورد، وعاش في الفترة ما بين 1154-1191م. وقد نشأ بمراغة، وسافر إلى حلب وبغداد، وهو أستاذ الشيخ محي الدين ابن عربي، ومن جاء بعده ممن أكملوا نظريته النورانية في “الإشراق الإلهي”. اتهم بانحلال العقيدة وفساد الأخلاق، وقال عنه ابن خلكان: “علمه أكثر من عقله، وقد أفتى العلماء بحلب بإباحة دمه، فسجنه الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي، في قلعة حلب، حتى مات، فدفن خارج أسوار المدينة والخندق الشمالي، وتحديدًا في الطرف الشمالي من منطقة باب الفرج”. وقد كانت أفكار السهروردي متأثرة بالفلسفة الأفلاطونية الجديدة والأفكار الفارسية وتعاليم الإسلام، وله عدد من المؤلفات العلمية والصوفية.

 

من شعره الخالد:

 

أبدًا تحن إليكم الأرواح

ووصالكم ريحانها والراح

وا رحمتا للعاشقين تكلفوا

ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تُباح دماؤهم

وكذا دماء العاشقين تباح

مقالات ذات صلة

إغلاق