بنت الحكومة التركية، بزعامة حزب “العدالة والتنمية”، علاقات جيدة مع محيطها العربي، ولا سيما سورية، بوابتها نحو الخليج العربي. وأدارت بذلك ظهرها لعقود من القطيعة مع هذا المحيط الذي حكمته قرابة أربعة قرون.
كان الاقتصاد البوصلة الموجهة للسياسة التركية، ولا سيما أن انتعاش العلاقات جاء بعد طفرة اقتصادية مميزة للأتراك، إذ تشكل السوق العربية عامل جذب مهم للاقتصاد التركي الواعد، بعدّ السوق العربية سوقًا استهلاكية بامتياز.
تفاجأ الأتراك -كغيرهم- بالربيع العربي، لكنهم حسموا أمرهم سريعًا، ووقفوا إلى جانبه، وتحولت العلاقات من طموحات اقتصادية، إلى أحلام سياسية وصفها كثيرون بالحلم الإمبراطوري.
وما عزز الحلم التركي نجاح “الإسلاميين” في بلدان الربيع العربي، في ليبيا وفي تونس (حركة النهضة)، وفي مصر (الإخوان المسلمون)، واحتضنت من سورية المعارضتين السياسية والعسكرية، وكان لها التأثير الكبير عليهما، ولا يغيب هنا دعم الأتراك للمعارضة الوطنية في العراق ضد سياسات المالكي الطائفية.
رُسِمت السياسة الخارجية التركية على أساس نجاح الربيع العربي، ربيع سيعيد تركيا إلى عمقها التاريخي، ويجعلها قوّة مهيمنة ورائدة في آن، وكيف لا تتجه إلى هذا العمق، والغرب الذي أقبلت عليه عقودًا يرفض انخراطها في اتحاده، ويعدّها -من خلال سياساته- جسمًا غريبًا غير مرغوب فيه؛ لأسباب سياسية واقتصادية وعقائدية وتاريخية.
شعر الغرب الرافض انضمام تركيا لاتحاده بالنفوذ التركي الجديد في العالم العربي، وخشي على مصالحه من “دولة عثمانية” ثانية بقالب جديد.
أمام حالة السيلان التي أعقبت الربيع العربي، وسيطرة الإسلاميين الذين لا يأمن الغرب جانبهم، وتخوفه من تماهيهم مع الأتراك، وجد الغرب ضرورة “فرملة” هذا الربيع؛ لسببين رئيسين: الأول يتعلق بالدول نفسها، فالرفض ليس للإسلاميين بقدر ما هو رفض للتجربة الديمقراطية في بلادنا، فانعتاق الشعوب من طوق الاستبداد لا يتوافق نهائيًا مع مطامع ومطامح الغرب في منطقتنا، والجانب الثاني وهو المهم في حديثنا يتمثل بالخوف من تحالف استراتيجي بين هذه الدول وتركيا، تحالف يُحَوّلُ تركيا من قوة إقليمية إلى قوة عظمى، ولا سيما أنها تمتلك مقومات الدولة العظمى، بشريًا وجغرافيًا واقتصاديًا.
وقد لعبت سياسة حزب “العدالة والتنمية” دورًا في تأجيج هذه المخاوف؛ فالخطاب الذي تبنته حكومة العدالة يختلف تمامًا عن خطابات الحكومات السابقة، وبذلت في سنوات حكمها جهدًا جبّارًا لهدم الهوة بين الأتراك العثمانيين والأتراك العلمانيين، ويتوقع أن تنتهي القطيعة إذا استمرت حكومة العدالة.
لا يغيب عنا -هنا- سياسة تركيا الخارجية مع الروس، الأعداء التقليديين للغرب، فلم تعد تركيا، على الرغم من عضويتها في(الناتو)، الحليف الذي يُعتمد عليه لكبح جماح الروس، فالعلاقات التركية- الروسية تتطور؛ لتكون استراتيجية.
أمام الواقع المُبشر للأتراك، والمقلق للغرب، نشطت الغرف المظلمة، وأجهزة المخابرات بخطط واضحة، فوُضعت العصي في عجلات الربيع العربي، عبر السماح للقوى الراديكالية المتطرفة بالنمو سرطانيًا، والعمل على عودة الدولة العميقة لأنظمة الاستبداد، مسوغين ذلك بأنها معادل موضوعي للقضاء على التطرف، فانقلب عسكر مصر على الحكومة الشرعية، وقُدم لهم الدعم من الشرق والغرب، وانزاحت حركة النهضة إلى الصفوف الخلفية، مع تقدم رجال بن علي، وجيء بحفتر لمنع ليبيا من ركوب قطار الديمقراطية.
لكنّ الوضع الأصعب كان في سورية، فالدعم التركي للمعارضة السورية اتخذ بُعدًا استراتيجيًا، ومن ثَمّ؛ غدا إسقاط المعارضة المدعومة أو المنسجمة مع تركيا مطلبًا غربيًا، فدعم الغرب جميع المعارضات، باستثناء المقربين أو المحسوبين على تركيا، بل ودعم الأكراد الانفصاليين بوصفهم العدو اللدود لتركيا، فتحولت الأخيرة من لاعب مهاجم إلى مدافع.
وبدا واضحًا أنّ تركيا مستهدفة من هذا، فكبح الغرب محاولات تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وتخلى (الناتو)عن تركيا في أول اختبار حقيقي عندما أسقط الأتراك الطائرة الروسية، وعاد إلى فتح ملفات قديمة كملف الأرمن. وجاءت المحاولة الانقلابية بوصفها أكبر محاولة لاجتثاث الحلم الإمبراطوري التركي.
أدرك الأتراك أن الحلم الإمبراطوري غير قابل للتحقق، على الأقل في المدى المنظور، وانطبق عليهم المثل القائل: “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”. فعملوا على إعادة ترتيب البيت الداخلي، بداية، وتغيير سياسات الصدام ثانيًا، فتصالحوا مع الروس والإسرائيليين، من جهة، وحدّوا من خطابهم الصدامي، وتدخلهم في شؤون الدول المحيطة.
في الملف السوري اكتفت تركيا بمنع وصل الأكراد عين العرب بعفرين، ودخلت في مساومات سياسية مع روسيا في هذا الموضوع.