هل لهذه الدرجة بات صعبًا علينا نحن -السوريين- التحاور دون إكراه أو تهميش أو إلغاء، وهل بات من الصعوبة -أيضًا- تبادل المعرفة والرأي بيننا دون ضغط أو ترهيب، وألا يستطيع كل منّا التعبير عن رأيه بحرية، وإن اختلفت الآراء دون تسفيه أو تكفير.!؟ وهل أصبح قدرنا أن نشتم ونكفر ونخوّن من يختلف عنّا، أو من يبدي رأيًا مخالفًا لرأينا؟
أن تكون حرًّا في إيمانك بخالق لهذا الكون، فهذا شأنٌ خاصٌ بكَ، لا ينازعك عليه أحد، فالله الكلّي القدرة لم يشأ أن يكون الإنسان عابدًا له بالإكراه، بل تركَ له حرّية الإيمان أو عدم الإيمان به، بقوله: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} “الكهف 29″، وبقوله أيضًا: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} “يونس 99”. والمهم هنا أن نمارس هذه الحرّية دون أن نكفّر أو نعتدي على بعضنا، لكن الأهم أن نمنع الكفر من أن يتحول إلى ظلم اجتماعي ومعرفي أو اقتصادي أو سياسي… إلخ.
مناسبة هذا الكلام هي الهجوم الظالم الذي تعرضت له مجلة “طلعنا على الحرية”؛ بسبب مقالة نشرتها للكاتب شوكت غرز الدين، بعنوان “يا بابا شيلني”. تحدث فيها الكاتب عن صرخة الطفل السوري، عبد الباسط طعّان السطوف، بعد أن بُترت ساقاه بقصف نازيٍّ، له نكهة سوريّة – روسيّة، في بلدة الهبيط الإدلبيّة. مؤكدًا أن لهذه الصرخة صرختين: “صرخة وجوديّة تقاوم الموت لتنجو، وصرخة معرفيّة مذهولة من كذب تعاليم حضارتنا/ ثقافتنا وزيفها. يصرخ عبد الباسط في لحظة وجوديّة حديّة، تقع بالضبط بين الحياة والموت وجوديًا، وتقع معرفيًا، بين قدرتنا على الفعل وعجزنا عنه.
الأولى بنا اليوم، وفي ظل هذه المأساة الرهيبة التي نعيشها في سورية، أن نسعى إلى امتلاك الوسائل التي تخرجنا من هذه المأساة التي نعيشها، وأن نهتم بأطفالنا، ونمنع الموت عنهم، وأن نوفر لهم ما يحميهم من البرد والجوع، وأن نهتم لعشرات الآلاف من المعتقلين والمخطوفين الذين يرزحون في عتمة الزنازين، يتمنون فيها الموت في كل لحظة للخلاص من هذا الجحيم، وأن نسعى بكل جهدنا لتخليصهم من مأساتهم المستمرة. ولنترك الله وشأنه، فهو بقدرته الكلّية قادر على الدفاع عن نفسه، ولا يحتاج إلى دفاعنا عنه، فيما نحن أعجز من أن ندافع حتى عن أنفسنا.
إن تعابير الشتائم والسباب والإهانات التي أصبحنا اليوم نسمعها على “الطالعة والنازلة”، بكل أسف، باتت تهدد جديًا مجتمعنا الساعي نحو الحرية والديمقراطية، فالشتائم هي منطق اللامنطق، كما الصوت العالي حجة الضعفاء في التمويه عن عجزهم بالتخفي والاختباء وراء عبارات من الشتائم والاهانات والتخوين والتكفير؛ لتُخفي -إلى حين- إفلاسهم الأخلاقي والفكري والسياسي.
إن ما نسمعه اليوم من تعبيرات تصدر عن بعض الموالين للنظام، وبعض المعارضين له، تخدش وتجرح، ليس من تُوجه إليه وحسب، بل ومن يسمعها أيضًا، وأقل ما يُقال فيها أنها بعيدة كل البعد عن القيم والأخلاق وقيم الحرية، وبعيدة عن قيمة الإنسان، بوصفه قيمة حضارية.
أن تكون حرًا في ولائك للنظام فهذا خيارك، وأن تكون حرًا في معارضتك له، فهذا خيارك أيضًا، المهم أن ألاّ تتجرد من إنسانيتك، فلنتحاور، ونختلف، لكن بعيدًا عن الشتائم والسباب والتخوين والتكفير، فالحوار لا يجري دون اختلاف، بل إن الاختلاف أرقى مظاهر الحوار، ليس بالضرورة أن نكون متفقين متماثلين، فالاختلاف والتنوع في الآراء غنى ومصدر ثراء لأي مجتمع، أما سيادة الرأي الواحد، فقتل لروح الإبداع، وتدمير لذات الإنسان، لقد آن أوان الكفّ عن التمترس وراء آراء ومواقف واجتهادات مسبّقة، وكأنها مقدسات ثابتة غير قابلة لإعادة النظر فيها، أو النقاش حولها. فإذا لم يكن هناك حوار بيننا، فسينطوي كلُّ واحد منّا على ذاته، ويعيش في حال من الشك والحذر، وتقع القطيعة والعداء والتصادم والتقاتل.
إن ما نصبو إليه في سورية الجديدة هو ضمان انتقالها من حالة الدولة الاستبدادية الشمولية، إلى الدولة المدنية الديمقراطية، دولة تنتفي فيها ما نسمعه اليوم من توجيه إهانات وسباب وشتائم وتخوين وتكفير، دولة تسلّم بحق الاختلاف والتنوع، دولة ترّسخ أدبيات الحوار لدى الحكام والمحكومين، على حد سواء، دولة تنبذ العنف، وتتخلى عن ثقافة التهميش والتغييب والإقصاء والاستئصال والتكفير والتخوين. دولة تحترم بناتها وأبنائها، وتساوي بينهم بصرف النظر عن أرائهم ومعتقداتهم وألوانهم وأجناسهم.
ولن يكون ذلك ممكنًا إلا من خلال العمل لإيجاد أرضية مشتركة بيننا، والاتفاق على صوغ مجموعة متناسقة من القيم الروحية والأخلاقية التي تأخذ في الحسبان التنوع والتعدد في المجتمع السوري، وتفاعل مكوناته السياسة والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وفتح أبواب الحوار والاجتهاد الحر على مصراعيه، دون تسفيه أو تكفير، والسعي جديًا لاستبدال ثقافة الاتباع بثقافة الإبداع، وممارسة التجريب الذي لا يتوقف في كلِّ مجال. وضرورة الانفتاح على كلِّ العوالم والثقافات التي يمكنها أن تؤدي إلى ازدهار المعرفة والتفاعل معها، بما يؤدي إلى الإفادة منها، والإضافة إليها، وترسيخ ثقافة تقبُّل الآخر المختلف عنّا، بصفته الوضع الطبيعي والشرط الضروري للثراء الناتج من التنوع. وتحرير العقل من كلِّ قيوده، ليمضي في أفقه الواعد، متحررًا إلا من التزامه مبدأ المُساءلة الذي يُخضِعُ له كلَّ شيء، بما في ذلك العقل الذي لا يكفُّ عن مُساءلة نفسه، قبل مُساءلة غيره، وحتى في فعل مُساءلة غيره.