“نحن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، كسائر الشعب السوري الحر، ننظر إلى تلك اللحظة الحاسمة لسقوط هذا النظام المرعب، ولإزاحة آلاف الأطنان من التماثيل الصامتة واستبدالها بمشاعل الحرية الآتية حتمًا، بفضل الأجساد العارية والحناجر المتلهفة إلى كلمة حرية”.
هذا مقتطف من المقدمة لكتاب عائد من جهنم الذي ألفه علي أبو دهن، رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، عقب اندلاع الثورة السورية، بعد أن أمضى ثلاثة عشر عامًا في ظلام الزنزانة، منها خمس سنوات في سجن تدمر الرهيب، وخرج عام 2000، إثر وراثة بشار مقاليد الحكم عن أبيه، وهو واحد من 54 معتقلًا لبنانيًا محظوظًا، بينما مازال خلف القضبان نحو ستمئة معتقل أو مغيب إلى يومنا هذا.
العنوان وحده يشي بكثير من سرديات العذاب، ويأخذ القارئ إلى عوالم يصعب تخيلها، فهي مليئة بالتعذيب والظلم والقهر والبطش، إذ لا ينتظر المعتقل شيئًا سوى الموت البطيء كالكلاب والبهائم، في مكان أقل ما يوصف بأنه جهنم الحمراء التي تحدثت عنها الأديان، ولا رب أعلى سوى مدير السجن الذي قال ذلك بعد حفلة استقبال المعتقلين، وبالطبع؛ أبو دهن واحد منهم، فيقول “أنا أنصح الناس بالتوبة، بالصلاة وبالعودة إلى الله عز وجل، أيًا كانت ديانتهم، ومهما اختلف إيمانهم. أقولها لأني قد زرت جهنم، وعدت منها لأشهد العذاب، ولم يرقني ما رأيت”
كان علي أبو دهن في زيارة عائلية لأقاربه في السويداء، بعد أن قدم طلب فيزا لزيارة أستراليا في سفارتها بالعاصمة السورية دمشق، عندما طُرق باب المنزل، ليتفاجأ بالاستخبارات تطلبه بحجة أن على سيارته بعض الإشكالات، وسيذهب معهم بضع دقائق لشرب فنجان قهوة، وللإجابة عن بعض الأسئلة، وسيعود مباشرة، وكما العادة، بضع الدقائق تحولت إلى ثلاث عشرة سنة.
تم تعذيب علي لمدة ستين يومًا تعذيبًا متواصلًا، حتى وقّع أخيرًا على ورقة بيضاء، ليعلم فيما بعد انها كانت تتضمن اعترافات بلقاء أرييل شارون، وأن طائرةً مروحية كانت تقله من بلدته حاصبيا إلى داخل إسرائيل، فضلًا عن التعاون مع جيش لبنان الجنوبي، وهو لا يعرف شيئًا عن كل هذا.
في عتمة الزنزانة المنفردة، يستطيع السجين أن يتآلف مع كل شيء، حتى مع الجرذان، حيث بنى أبو الدهن صداقة مع الجرذ الذي كان يزوره، وبات أنيسه في ذلك الجو الموحش، لتستمر تلك العلاقة أربعة أشهر، وهي المدة التي قضاها في الانفرادي، في حين في سجن تدمر كانوا يسلون أنفسهم بمراقبة أسراب النمل، وطريقة عملها، ويستمدون القوة والصبر من إصرارها.
في ذلك السجن اللعين ممنوع على المساجين أن يقولوا لا، حتى وإن استحلى عسكري سجينًا، وأراد ان يغتصبه، فما على السجين إلا ان يطيع، مطأطأ الرأس، مغمض العينين “نحن الشرطة العسكرية أسوأ ما في الجيش العربي السوري، ولو وجدوا أسوأ منا لجلبوه إليكم فورًا”، الأنكى، هو أنه بعد هذا الخطاب السادي الشاذ طلب من المساجين أن يصفقوا، وما كان عندهم خيار سوى الامتثال، وفي ذلك الجحيم البشري، يحاسب السجناء –أيضًا- حتى على أحلامهم!
الإهمال الصحي هو الوضع الطبيعي، ولكن أن يلتهب فم أحد المساجين، ويصرخ وجعًا، فلا تستغرب حينها إن ركله الرقيب المصاب بسعار التوحش، على فمه، فيكسر له الضرس المسبب للألم وجمع الأضراس حوله، والحال هذه لا بأس من إجراء المساجين لبعضهم عمليات جراحية للأسنان بأدوات بسيطة.
في إحدى المرات القليلة كان الطعام رزًا مع لحم على وجهه صنوبر، فما كان من السجان إلا أن تبول على الأكل فرآه علي من ثقب باب الزنزانة، فشهق، ولكن من دون أن يسمعه السجانون أو حتى يروه، ولم يجرؤ على إخبار زملائه بما رأى، فانكب الزملاء على الأكل، دون أن يلاحظوا الفارق بالطعم، “وتساءلت كم مرة أكلت وتلذذت، وحسبت بولهم مرقة دجاج او بهارًا صينيًا جديدًا أو… دون أن ألاحظ الطعمة”.
يروي علي أو السجين رقم 13، قصة زميل له في المعتقل كان مريضًا جدًا فطرقوا باب الزنزانة، أكثر من مرة، وفي كل مرة كان الطارق يصبح معلّمًا، ما يعني انه سيتعرض لعذاب شديد صباح اليوم التالي، وكان السجان المتوحش يقول لا تطرقوا الباب وإلا أصبحتم كلكم معلَّمين، عندما يموت المريض أخبروني!
لقد عمل نظام الأسد جاهدًا على زيادة رقعة التناقضات وخلق الفجوات، وتوسيعها بين مكونات الشعب السوري الواحد، وربما يحتاج ردم الهوة التي سببها عشرات السنين، وفعل الشيء نفسه بين السوريين واللبنانيين، في أثناء اجتياح لبنان بعد الحرب الأهلية اللبنانية، وتركه مشاعًا للنهب والسرقة والإذلال، من ضباط النظام وعناصره، وهذا ما نحصد حصاده الأسود من علاقة متوترة بشكل أو بآخر بين السوريين واللبنانيين حتى يومنا هذا.