لطالما استمرأت الأحزاب والحركات السياسية العربية ادعاء التشبّث بالثوابت والمبادئ التي تأسّست عليها، على الرغم من تغيّر الأوضاع والمعطيات، وعلى من الرغم تآكل هذه الأحزاب وأفول دورها، وانكشاف قصور، بل وعطب، أفكارها التأسيسية، وأيضًا على الرغم من الفجوة بينها وبين شعبها.
مثلًا، مازالت الأحزاب والتيارات القومية تصرّ على التعامل مع مسألة الوحدة العربية (وهذه تختلف عن مسألة الهوية العربية) بشكل يقيني، وحتمي، ومن دون أي مراجعة لقصور الفكر “القومي” في مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات الإثنية، كما في مسألة السلطة والدولة، فضلًا عن صدور الفكرة القومية من نظرة متعصّبة ومنغلقة، تحيل القومية إلى شيء مطلق وثابت وعنصري، بل واستبدادي، في مقابل القوميات أو الهويات الإثنية الأخرى.
وينطبق الأمر ذاته على الأحزاب الشيوعية التي مازالت تصر على شيوعيتها وطبقيتها، في واقع لم تعد فيه نظرية “فضل القيمة” تعمل وفق النظرية الماركسية الكلاسيكية؛ بحكم تطور العلوم والتكنولوجيا، وتحولهما إلى المصدر الأساس لمراكمة رأس المال، بدلًا من قوة عمل العمال. وأيضا في واقع لم تعد فيه الطبقة العاملة تلك الطبقة الأكثر عددًا وتقدمية والأكثر مصلحة في التغيير والقائدة للتاريخ؛ ولا سيما أن الفئات الكادحة في واقعنا العربي هي الأكثر ممانعة للتغيير، بسبب تدني مستوى وعيها، وانصرافها إلى تحصيل لقمة عيشها، وبحكم خضوعها لنوع من الأنظمة الشمولية. إضافة إلى أن هذه الفئات في ظل ما تعانيه من فقر في الوعي وضعف حيلة في مواجهة أمورها المعيشية باتت مرتعا للعصبيات المذهبية والطائفية والقوى الظلامية والمتطرفة. والأنكى من ذلك أن السلطات المقبلة، والأحزاب السلطوية، باتت تعتمد على هذه الفئات التي تستغل أو تستثمر في إفقارها، للحفاظ على ثباتها وثوابتها، ومناهضة مسارات التغيير والتحديث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، التي تعمل بقوة دفع موضوعية (بحكم التطورات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية)، وبحكم مسارات العولمة، وبقوة دفع من الفئات الوسطى الصاعدة. وطبعا لا ننسى في غضون ذلك أن معظم الأحزاب الشيوعية السائدة أضحت تميل إلى تكريس الواقع السائد، ومحض الأنظمة الاستبدادية تأييدها ودعمها، ومثال ذلك موقف هذه الأحزاب من النظام السوري.
هذا ينطبق على حركات التحرر، أو حركات المقاومة، وضمنها المقاومة الفلسطينية التي تصر فصائلها على التمسك بالمقاومة وتحرير فلسطين، في حين أنها باتت بمثابة سلطة في جزء من أرض على جزء من شعب، فضلا عن أن هذه الحركات تبدي ممالأة للأنظمة الاستبدادية، كأن فكرة التحرير تتعارض مع فكرة الحرية، أو كأن العدالة في تحق على شعب ولا تحق على شعب أخر.
بناء على ذلك؛ فإن الحديث عن الحفاظ على الثوابت والمبادئ والمنطلقات الأولوية، عند التيارات والحركات والأحزاب السياسية وحركات التحرر، على الرغم من كل المتغيرات الموضوعية، وعلى الرغم من كل القصور والتقادم فيها، يبدو في الوهلة الأولى نوعًا من مكابرة، وعناد، أكثر من كونه نوعًا من إرادوية ثورية، التي تعد من صفات الأحزاب الراديكالية، التي مازالت في بداية طريقها النضالي، أو مازالت تحافظ على طاقتها الكفاحية، وهي صفة لم تعد تتمتع بها غالبية الأحزاب والتيارات والحركات السياسية السائدة في البلدان العربية.
بمعنى أخر، فإن الحديث عن الثوابت والمبادئ والمنطلقات يجري على الأغلب للاستهلاك فحسب، ونوعًا من فولكلور، وللتورية على السياسات الحقيقية التي يجري انتهاجها. فالأحزاب الاشتراكية والقومية والوطنية/الشعبوية، عندما باتت في السلطة، أو حققت وضعا سلطويًا، سارت في الطريق الرأسمالية، وبنت سلطتها القطرية، وفرضت علاقات تسلطية، عمادها القوة، بدلًا من العلاقات الديمقراطية مع الشعب. هذا ينطبق على حركة “فتح” الفلسطينية، التي مازالت تؤكد تمسكها بثوابتها ومبادئها ومنطلقاتها الأولية، على الرغم من أنها سارت في خيار التسوية عبر المفاوضات، بعد أن كانت تتوسل المقاومة المسلحة لتحقيق أهدافها، وعلى الرغم من أنها تحولت من حركة تحرر وطني إلى سلطة (تحت الاحتلال)، ومن مجال الصراع مع إسرائيل إلى مجال التعايش معها!
ويُستنتج من ذلك أن ثمة نوعًا من انفصام في شخصية الحركات والأحزاب السائدة، كما بين الأطروحات النظرية والسياسات العملية التي يجري انتهاجها، وهو انفصام يمكن تفسيره بتقادم هذه الأحزاب، وعجزها عن تطوير فكرها السياسي، وضعف حاضنتها المجتمعية.
طبعًا ليس القصد من هذا الكلام طرح أمور تعجيزية، أو المزايدة على القوى السياسية المعنية، وإنما القصد التأكيد على ضرورة تخليص هذه القوى من ادعاءاتها النظرية/الشعاراتية، وتحرير خطاباتها من الجمود الذي يعتريها، ووضع حد لنهج الاستخفاف بالعقول والمشاعر، والتعود على تمثل مصالح الشعب في خطاباتها ومواقفها السياسية.
ومعنى ذلك أن تغيير الخطابات وتطوير المقولات وإغناء الطروحات السياسية ليس شيئًا معيبًا في العمل السياسي، إذ المعيب والمضر هو البقاء عند حيز الخطابات العاطفية والشعاراتية، وتاليًا بثّ الأوهام والنزعات الإرادوية، بغض النظر عن موازين القوى والإمكانيات.
وخلاصة الأمر؛ فإن الحركات والأحزاب الراديكالية تتغير أيضًا، وحتى أنها تتغيًر من دون وعي أصحابها، وربما على الرغم من إرادتهم، بدفع من الأوضاع والضغوط الموضوعية، وبحكم ثقل المسؤوليات السلطوية التي تدخلها، وأيضا بسبب تولد مصالح وعلاقات جديدة، تنبثق عنها رؤى أفكار سياسية أو سلطوية جديدة أيضًا، لكنها -مع كل ذلك- تحافظ على القشرة الأيدلوجية، أو الهوياتية، التي تسوغ فيها ذاتها، أو تغطي فيها تحولاتها، وضمن ذلك يأتي استمراؤها ادعاء التمسك بالثوابت والمبادئ.