تُظهر العلاقات المشتركة بين تركيا وإقليم شمالي العراق الخاضع لقيادة “الحزب الديمقراطي الكردستاني”، الذي يقوده رئيس الإقليم مسعود بارزاني، متانة استراتيجية بارزة لا جدال حولها. وفيما يربط كثير من الباحثين تطور هذه العلاقات بوصول حزب “العدالة والتنمية” إلى السلطة في تركيا وتطبيقه سياسات تحالفية براغماتية في إطار مبدأ “صفر مشاكل”.
يفند التاريخ هذا الادعاء، ويُرجع ميلاد العلاقة بين الطرفين إلى 25 أيلول/ سبتمبر 1997، حين حدث تقارب بين الحكومة التركية و”الحزب الديمقراطي الكردستاني”. وفي إثر هذا التقارب طلب الحزب الديمقراطي الكردستاني حينذاك من القوات التركية التدخل لصد “حزب الاتحاد الكردستاني” (الشيوعي)، بقيادة جلال الطالباني الذي كان ينافس “الحزب الديمقراطي” في فرض السيطرة السياسية والعسكرية على الإقليم الذي حاز على استقلاله الفعلي عن بغداد عام 1991.
يُمثل هذا التاريخ الذي يعكس التوجه البراغماتي لتركيا، الدليل الواقعي الذي يدفع إلى القول بأن تركيا قد تمضي نحو قبول وجود كيان كردي في شمالي سورية، ولكن التقارب الذي بات تحالفًا استراتيجيًا بين تركيا وإقليم شمالي العراق اليوم، لم يأتِ من فراغ، بل كانت هناك عدة عوامل أسهمت في تأسيسه وترسيخه. بالركون إلى ذلك الطرح، يصبح من الممكن القول، بأن قبول تركيا بوجود كيان كردي في شمالي سورية دون معارضة سياسية وعسكرية، مناط بعدة عوامل، يمكن استخلاصها من خلال العوامل التي أسهمت في بناء التحالف بين تركيا وإقليم شمالي العراق.
عوامل التحالف بين تركيا وإقليم شمال العراق:
تتعدد العوامل التي تجمع بين تركيا و”الحزب الديموقراطي الكردستاني” في إطار توافقي، إلا أنه يمكن تلخيصها على النحو الآتي:
أولًا-عامل تاريخي، سياسي، استراتيجي
دخلت القوات التركية الأراضي العراقية أول مرة تحت اسم عملية “المطرقة” في أيار/ مايو 1997، بذريعة حماية الآشوريين والمدنيين الذين تعرضوا لاعتداء سافر من “حزب العمال الكردستاني”، الذي تغلغل في الإقليم بمساندة “الاتحاد الوطني الكردستاني”. ولعل ذريعة تركيا المُعلنة حينئذ كانت الدفاع عن المدنيين، إلا أن الحقيقة الماثلة كانت تُشير إلى رغبتها في استغلال العملية؛ لقضم جذور العمال الكردستاني هناك. وفي أيلول/ سبتمبر من العام نفسه تحالفت مع الحزب الديمقراطي الذي كان يبحث عن عنصر موازنة، يوازن الدعم الإيراني لحزبي “الاتحاد الوطني” و”العمال الكردستاني”، الذي حاول الحفاظ على علاقة جيدة مع تركيا التي استجْدت تحالف بارزاني أو طالباني، فبينما فشل الأخير في إدامة التحالف برع بارزاني في إدامته من خلال التقارب الوثيق.
وإلى جانب رغبة تركيا في التحالف مع “الديمقراطي الكردستاني”، لردع “حزب العمال الكردستاني” واستئصال جذوره من شمال العراق، كانت ترمي -أيضًا- إلى الحفاظ على الإقليم من السيطرة الإيرانية.
إضافة إلى ذلك، يُذكر أن حلم ضمّ السليمانية والموصل إلى تركيا، كونهما من حق تركيا الذي لم تستطع استرجاعه خلال مفاوضاتها مع المستعمر الإنجليزي، راود معظم قادة تركيا الذين أرادوا من خلال محاولة تحقيقه رفع رصيدهم الانتخابي لأعلى المستويات.
أيضًا، كان يرى قادة تركيا في نظام صدام نظامًا مستبدًا، ولتلميع هوية تركيا الداعمة لحقوق الإنسان، والمفيدة لحلف (الناتو) الذي بدأ يتجه للتفكير بعدم أهمية تركيا في تحقيق أهدافه، كان لا بد من الوقوف مع إقليم شمال العراق الوليد، والتلويح بشعارات إنشائية تشير إلى استمرار وقوف تركيا في القطب الغربي الأميركي.
اليوم مع استمرار وجود أوكار حزب العمال الكردستاني داخل الإقليم، ومع ديمومة التنافس التركي الإيراني في فرض نفوذ السيطرة الدبلوماسية على العراق، (ثمة سيطرة إيرانية أكبر على العراق)، ومع ميلاد خطر إرهاب “داعش”، يبقى تحالف الطرفين استراتيجيًا واضطراريًا للاستمرار والتوسع.
ثانيًا- الإيديولوجية غير المتناقضة
تتسم عادةً الأحزاب الكردية المسلحة، بمعزل عن موقعها الجغرافي، بالفكر اليساري الشيوعي المتشدد الذي يؤمن بالفكر الثوري الشامل ضد النظام الحاكم. أما الحزب الديمقراطي الكردستاني فيختلف عن هذه الأحزاب باعتداله الفكري وصبغته الديمقراطية الليبرالية غير المتشددة، وهذا ما سهّل قيامه بتأسيس علاقات سياسية استراتيجية مع تركيا التي وجدت في فكره المعتدل ضمانًا لإكساب العلاقات المتبادلة نوعًا من الديمومة. وقد ترسخ هذا الفكر لدى تركيا في إثر نقض حزب العمال الكردستاني عهده في ما يتعلق بعملية السلام، إذ قلب الطاولة في وجه الحكومة التركية على الرغم من المسار الإيجابي الذي كانت تسير عليه وتيرة المصالحة بين الطرفين.
ثالثًا- التنافس القيادي
إن الفكر المحافظ المعتدل أو الليبرالي الديمقراطي الذي يحمله بارزاني، يجعله في احتدام فكري وقيادي دائم مع حزب العمال الكردستاني والأحزاب الكردستانية المرادفة له وعلى رأسها حزبا “الاتحاد الوطني” في العراق، و”الاتحاد الديمقراطي”، في سورية، وللحفاظ على هذا الإرث القيادي الذي حصل عليه مسعود بارزاني من والده مصطفى بارزاني، كان لا بد له من التقارب مع تركيا “المستجدية” التحالف معه.
رابعًا-العلاقة الوصلية
يحظى الإقليم الكردي بدعم أميركي وأوروبي ملموس، وهو ما يدفع تركيا للحفاظ على علاقات متطورة معه، لتحظى هي -أيضًا- بقبول أميركي وأوروبي، وتود أن يبقى لها تأثيرًا فعالاً في مسار السياسة العراقية الداخلية عبر الإقليم الذي أصبح له دور بارز بعد عام 2003. وعلى الصعيد الآخر، يحاول الإقليم الاستفادة من تطوير العلاقات مع تركيا، للحصول على فرصة توصله لتأسيس علاقات سياسية واقتصادية مع دول الاتحاد الأوروبي.
خامسًا-عامل اقتصادي
تُعد تركيا اليوم المصدر الأساس للسلع التجارية بالنسبة إلى لإقليم الذي يعاني من علاقات متوترة مع إيران، وتذكر التقارير أن 90 بالمئة من المواد الغذائية المستهلكة في الإقليم مصدرها تركيا.
إضافة إلى ذلك؛ هناك علاقة التكافل البيني الاقتصادية، التي ظهرت بين الطرفين بعد إبرام اتفاقية بيع نفط الإقليم عبر تركيا لمدة 50 عامًا، إذ تحتاج تركيا إلى نسبة كبيرة من النفط لتغطية حاجاتها، وتهدف إلى تحويل جغرافيتها إلى منطقة مهمة لتوزيع النفط. أما الإقليم فيحتاج إلى دخل يغطي حاجته المادية، بعد تعطل بعض خطوط النفط الممتدة ما بين السليمانية وبغداد، إضافة إلى اضطرار الحكومة المركزية لتخفيض ميزانية الإقليم بنسبة 17 في المئة نتيجة الأزمات التي تعاني منها من جراء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل وبعض المناطق السنية الأخرى، إلى جانب الفساد الإداري الذي فاقم أزمات العراق الاقتصادية والاجتماعية.
استمرار هذه العوامل، سيزيد من التعاون المتبادل بين الطرفين على جميع الصعد، والشواهد ماثلة في الواقع، كالاعتراف التركي المباشر بإقليم العراق، بعد أن كانت تراه خطرًا استراتيجيًا على مصالحها الداخلية؛ والزيارات الدورية المتبادلة، ومستوى التنسيق الدبلوماسي والعسكري رفيع المستوى، والاتفاقيات الاقتصادية بينهما، كلها، تشير إلى أن العلاقات تتجه نحو التطور. أيضًا، يمكن الاستخلاص من العلاقات الرابطة بين تركيا وإقليم كردستان العراق، أن تركيا يمكن أن تعترف بما يسمى “الإدارة الذاتية” أو الثقافية للأكراد في شمالي سورية، شريطة أن تكون القوة الحاكمة هناك قوة مقربة منها. وعلى أرض الواقع تحاول تركيا تقوية شوكة ميليشيا “البشمركة” الكردية السورية المنضوية في لواء “المجلس الوطني الكردي” القابع في أربيل والمتحالف معها، ولكن يبدو أن الدعم الدولي القوي لـ “الحزب الاتحاد الديمقراطي” يحول دون تحقيق تركيا ما ترنو إليه في الوقت الحالي، في الأقل. وفي حال بات لميليشيا “البشمركة” السورية دورٌ فاعلٌ في شمالي سورية، قد يبدأ على الفور التعاون الوثيق بينها وبين الإقليم، لتحقيق المصالح نفسها، السياسية والاقتصادية التي تحققها اليوم بتعاونها مع إقليم شمالي العراق. التنعّم في التحركات التركية المستميتة التي تهدف إلى إشراك ميليشيا “البشمركة” في عملية “تحرير” الرقة، تدل على تحرك تركي “عقلاني وواقعي”، يقبل بوجود الكيان، ولكن تريد أنقرة أن يصبح تحت جناحها جزئيًا، أو شبه كامل، كعلاقتها مع إقليم شمالي العراق.