مقالات الرأي

سورية بلا عقائد مستبدة ولا أصفاد

ليس هذا المقال تحليلًا سياسيًا، بل صرخةً مازالت قائمة في منطقتنا منذ بداية القرن العشرين، صرخة ما قبل اليأس؛ لنستيقظ من أوهامنا؛ لنلفظ ما علق بإنسانيتنا من شوائب التاريخ، ولنحتفظ بما أهداه لنا من عِبَر، صرخة لنسمو بأرواحنا بوصفنا بشرًا، ولننقذ، ليس الأطفال الهائمين في شوارعنا فحسب، بل ومستقبل من سيأتي ويكبر، تكفيرًا عن تلك السنوات التي أضعناها ونحن نركض وراء الأوهام.

مئة عام من الفشل كانت الحصيلة المُرّة لأنظمتنا وشعوبنا، مئة عام من الاصطفافات العقائدية انتهت جميعها إلى سراب؛ فشل في الوحدة، فشل في الحرية، فشل في الاشتراكية، بهذا الترتيب أو بخلافه، فشل في التسامح الديني، فشل في التنمية، فشل في التعليم، فشل في استقلالية الفرد واحترام كينونته، فشل في تحرُّر المرأة ورفع يد التسلط الذكوري عنها، فشل في جميع أشكال المساواة والعدالة واحترام القانون.. إلخ، فما الذي حققناه غير الفشل؟

وكم هو عدد الهزائم العسكرية التي كفناها بالانتصارات خلال أقل من مئة عام، وبكلمات منسوجةٍ مما بقي لدينا من متحف اللغة التي لم تنفض عنها غبار الصحراء بعدُ، فرفدناها بمصطلحات “النكبة” و”النكسة” و”المجابهة” و”المقاومة” و”الممانعة”، مصحوبةً ببلايين التكبيرات والدعوات والآهات التي ملأنا بها الفضاء. وإسرائيل التي إن وجدت بإرادة دولية، لم تستمر بتلك الإرادة فحسب، بل لأنها طوت فكرة “شعب الله المختار” في خزائن التاريخ؛ لتبني دولتها العصرية، وتساهم في إنتاج الحضارة البشرية، أو حضارة التدمير البشرية، لا فرق! لقد فشلنا في مواجهتها، وحلمنا برميها في البحر، بينما كنا نعيش، وما زلنا، في مستنقعات آسنة، نتلصَّص على العالم من حولنا، ونستعمل منتجاته، ونفاخر بأننا خير الأمم!

حتى الدول والدويلات التي رسم حدودها المستعمر، لم نستطع الحفاظ عليها، وحوّلنا مؤسساتها إلى خرائب للتصفيق والفساد والعسس، ليس الأمر غريبًا عنّا، فنحن، بالفعل، مازلنا أسيري مرحلة من تاريخنا لم نتوقف عن اجترارها طوال كل هذه السنين، كذلك لم نتوقف عن رفع المغامرين والمهووسين فوق رؤوسنا، مستبدًّا بعد آخر، حتى سحقونا بأقدامهم، بعد أن منحناهم السلاح الأخطر لقتلنا؛ الجهل.

وفي سعينا المحموم للبحث عن منقذ، اكتشفنا جمال عبد الناصر في بداية الخمسينيات، نهضنا من سباتنا وانطلقنا وراءه، مثيرين زوابع الغبار، وقد غاب عنا أنّ العواطف، في هذا العصر، لا تنفع إلا محرِّضًا للتفكير وإعمال العقل، والسير في طريق العلم، فتحولت المنجزات، على قلَّتها، إلى هباء. ثم استنسخنا القائد بنماذج أكملت طريقه إلى مزيدٍ من الهباء والدمار؛ حتى من صار منا شيوعيًا تشبّث بحلمه المستحيل، ومازال يأمل في أن يقوم قيصر روسيا الجديد بتدمير الرأسمالية العالمية، والغرب الاستعماري على رؤوس العالم، ليحقّ الحقّ ويُزهقُ الباطل!

في سورية انهار سقف “الوطن” على رؤوسنا جميعًا، ولم يكن سوى سقيفة “بني ساعدة” جديدة خرجنا منها منقسمين، كما حصل منذ مئات السنين، في الوقت الذي انقلب فيه العالم على نفسه مرات ومرات، وبنى ناطحات السحاب، المادية والفكرية والعلمية، ليتركنا نتعارك في خيمنا، المهاجرين إليها والمهجَّرين منها، ونلتجئ إلى أعدائنا وأصدقائنا، عارضين التبعية والعمالة للجيران والأغراب، وكل عابر سبيل، ومستعدين لسفك دماء بعضنا بعضًا، مقابل حفنة من المال، أو وعد بدوام سلطة، أو حلم ببلوغ جنة.

وعوضًا عن اللحاق بركب العالم المتحضر، عبرنا البحر الذي يفصلنا عنه في قوارب الموت، ليصبح بعضنا طعامًا للأسماك في مغامرة الوصول إلى الشاطئ المقابل، حيث الأمان والعدالة والقيم التي رضعنا أوهامها وضنّ بها الواقع، وقادتنا الغريزة، مثل الطيور المهاجرة، إلى الشمال، وليس إلى حيث تكمن مقدّساتنا في الجنوب.

ألا تكفي ست سنوات من الموت والدمار لنقلب الطاولة في وجوهنا ذاتها، لنعيد النظر بكل ما سبق، لنغيّر طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى العالم من حولنا، لنضع الإنسان وحياته وأمنه في المرتبة الأولى، لنستبطن إيماننا ونخرجه رحمةً ومحبة، لنختار قيم الحرية، ونرفض التمرغ عند أقدام المستبدين، لنفكر في أن نصنع تاريخنا ولا ندعه ليعبث به شذاذ الآفاق، على اختلاف ألوان راياتهم السود والصفر، التي بلون الموت الآتي من مجاهل التاريخ، فأي مصلحة للسوريين في حرب كهذه؟

لنعترف أننا هُزمنا جميعًا، ولنسارع إلى بناء استراتيجية جديدة وسلمية، بعيدًا عن جميع النزاعات والحروب، قوامها جهاز أمنٍ وطني فعال لحماية الإنسان/ المواطن، وجيشٍ صغير محترفٍ خاضعٍ لتلك الاستراتيجية. وسيأتي يوم نجد فيه أن معظم مشكلاتنا مع الخارج قد حُلَّت من تلقاء ذاتها، وتحوّل الأعداء إلى شركاء في المصلحة.

ثمة خطوة لا بدّ منها؛ العدالة ومحاسبة مجرمي الحرب ومن ورائهم، معبرًا للتسامح وتضميد الجراح في سوريتنا المقبلة، على أن تقوم بذلك المؤسسات الأممية، كما حدث في يوغسلافيا السابقة، فلا ندخل في دوامة عنف جديدة، ونحن على هذه الدرجة من الهشاشة وقلّة الأهلية.

مهما اختلفت توجهاتنا، بوسعنا البدء بأمرين حيويين، بعد أن نخرجهما من حيز التجاذبات؛ التعليم والقضاء. لنستبدل كل ما يعيق حرية الإنسان في مناهجنا التعليمية، بعيدًا عن سطوة العقائد، فكم من مجتمعات ودول رفعتها المناهج التعليمية إلى مستويات التقدم والتحضُّر، عل سبيل المثال، ومن زمنٍ ليس ببعيد، كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورا وغيرها. أما القضاء العادل، فيتكفّل بإعادة الأملَ للمظلومين، ويُبعد القهر وعوامل الانفجار.

في كل الحالات، لنبحث عمّن لم يتلوث بالفساد من أصحاب الكفايات، أولئك الذين جرى تهميشهم؛ فانزووا في العتمة، أو هاموا في بقاع الأرض، ويحملون صفات أخلاقية فريدة، كونهم لم يشاركوا في منظومة تعدّ من أكثر المنظومات تدميرًا للكفايات في العالم.

مَن، وما، لم تغيّره هذه السنوات العجاف، فهو عصيٌّ على التغيير وعقبة في وجه كلّ تغيير، سواء أكان فردًا أو نظامًا أو حزبًا أو مؤسسة، ومكانه على هامش التاريخ. التغيير مخرجٌ إلى عالمٍ جديدٍ ومُستحقّ، ولا مهرب منه إلاّ بالخوض فيه. ليس المهم شكل النظام الديمقراطي المرجوّ؛ أكان فيدراليًا أم لا مركزيًا، إنّما المهم، على نحوٍ خاص، إصرار السوريين ونخبهم على اجتراح مأثرة النهوض بسورية المقبلة.

مقالات ذات صلة

إغلاق