مقالات الرأي

آذار وجواب الروح عن سؤال الجسد

ست سنوات أرهقت جسد وطنٍ كان قبل ست سنوات نحيلًا، أشلاءٌ منه ذهبت إلى خالقها، وأخرى تقيم على الحدود، بانتظار خُرمٍ في بوابة المعبر، والمصير يقيم على الحدود بين الألفاظ ومعانيها، فلا اللغة تألف الألفاظ الجديدة، ولا غمامة المعنى تنداح. لا ينطبق اللفظ ومعناه إلا على فعلٍ ماضٍ ناقص يسبق الكلام عن حبيبٍ قد رحل: كان وطنًا لمن أحبه، وكان حياةً لمن لا يتقن فن الحياة في غيابه…

كان ريّانًا إلى جنة حضوره، واكتمل في حياة من عرفه النقصانُ بعد غيابه.

هكذا يختلط الخاص بالعام، بالمجزرة، بالصرخة، بالابتسامة، بالحب، بالحقد، بالفوضى، بالجوع، بالشوق، بالإصرار، بالماضي، بالمقبل، بالأمل، باليأس، بالصحوة، بالغفوة… وبالثورة.

آذار هذه ليست ذكرى، بل يا آذار هذه هي الذكرى.

أتذكر يا آذار وصية الأب والأم: “لا تكذب”، يقولانها بمد ألف الـ “لا”، وتشديد كل حرفٍ في “تكذب”، ولكنهما -يا آذار- يغطيان “جُرم” إخلاصنا لوصيتيهما، في محكمة أمن الدولة، بكذبتين…آباؤنا لا يكذبون إلا من أجلنا، حين يرتلان السلام على مسامعنا يتدفقان حبًا، وعيونهما تدمع، فاطمئن يا آذار واتلُ: “فبأي آلاء ربكما تكذبان”.

جسدٌ واحد نحسبه جغرافيا، وهو تاريخ وسيرة ولسان ووجدان. ميزانٌ للحدود، أكبر من خيمةٍ في الزعتري وأصغر من محبته في القلوب التي قست عليها السياسة، جسدٌ نَشتَمُّ فيه الذات من بعيد، كما كنا في صغرنا نَشتَمُّ رائحة الخزامى عندما يأتي آذار… فقلِّب -يا آذار- في رأسك الأحداث، واغرورق بالحنين، قلِّب الذكريات كما كان جدي يُقلِّب الجمر في المجمرة؛ لينبعث الدفءُ في ليل الحكايات الشعبية، ولكن؛ لا تجرب أن تدوِّن في يومياتك ما انصرم؛ فلن تعقِل فيه غير الصور… صورٌ ماضيات، كالعاديات مغيراتٍ على ذكراك ضبحا. هذا الصهيل سيهز في داخلك روح الفروسية.

لا تكتب يا آذار؛ فقد كتب هذا الجسد بالعرق والدم سيرتك، لك اليوم مكانٌ في اللغة. ولا سبيل إلى فهمك إلا بعد تنظيف القاموس من مفردات الجريمة، المقدس منها والمدنس.

احتضنتك الروح يا آذار، والجسد يشتم رائحة الأمان في ما تركه الأبناء على قارعة الرحيل. احتضنك من يرفع اسم الله في الصلوات إلى الأعلى، من لا يتأففون من تبعات ميثاق قديم، لهم منه خصلٌ: شرفٌ، وكرامةٌ، وبعض أرضٍ، وبعض كبرياءٍ، وفائضٌ من الحب، والصبر الجميل. ولكن يا آذار إن قابلت شهر القبيلة في دورةٍ من دوراتك، فقل له إننا عصينا أمر الجماعة المأسورة بتعاليم الشيخ، وأحكام العصبية. وقل له أننا لن نرضى عن الحرية بديلًا. وإن قابلت إله السنون في يوم حساب الأزمنة فقل له: قد ثار السوريون على الهمجية والطغاة، فكان لهم على الأزمان فضلًا وجميلًا.

عدت يا آذار، وما زلنا نكتب: مازال الواقعي يتمنع على غزل الفكرة، ولا بد من المجاز لتطريةِ نداءِ السياسة المُرسلِ في بريدِ المجزرة؛ ومازالت النفس النزاعة إلى الحرية تراود الأملَ على عطاء؛ والبداية هي النهاية، إن نحن أتقنَّا العزفَ على أوتار المفهومات المعاصرة، بين الدمعة والحزن، وبين الغيمة والقطرة؛ وما أَمضَّ مفهومات الثورة حين يحاول عبثًا أن يُخمدها سَفاحٌ حاقد. مازلنا نتساءل: كم من عَلَمَينِ تنابزا بالألوان بين شبابٍ عاشق، وفي تَبيُّنِ الهوية تائِه، وكم من شعارين تزاحما؛ لكي يبوحا بما سيتهدم فينا، أو بما سيتعمّر فينا، والذهن يسرَح في السؤال عن المتبقي من حياة قاتلنا، وعن الباقي بعد إحصاء قتلانا، وعن الذي مات في وجدان الأحياء منَّا. ولكننا ازددنا إصرارًا: “الشعب السوري واحد”، “الله سورية حرية وبس”، “الموت ولا المذلة”…

جواب الروح عن سؤال جسد الوطن هو جوابٌ سياسي فطري: حبنا للحياة، واحترامنا الآخر، وتمسكنا بوطننا وبروح التسامح فيه. هو جوابٌ يحيل على بديهياتنا المبدئية الأصيلة التي تقوم على نبذ الإجرام والتطرف، أيًا كان فاعله، ومهما كان سلاحه. هو جواب يحيل على حُلمَنا وحقَنا المشروع في العيش في سورية حرة موحدة آمنة، تحتضن جميع أبنائها.

مرة أخرى يا آذار: نحن نروي الوردة الثكلى، وننتظر مخاض طفل جديد وولادة أملٍ جديد…

مقالات ذات صلة

إغلاق