مقالات الرأي

المناطق الآمنة بؤر لنزاع مديد

منذ بدء الحرب التي طالت معظم المدن والمناطق السورية، وما واكبها من تهجير للسوريين الذين اندفعوا إلى دول الجوار؛ هربًا من آلة الحرب، شكّل موضوع إيجاد مناطق آمنة لإيوائهم أحد أهمّ الموضوعات المطروحة في أروقة دول القرار، ومع استلام ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، عاد الحديث عن المناطق الآمنة، بوصفها جزءًا من خطة دولية “لحماية” السوريين.

الخيارات الجديدة التي تعدّها واشنطن تتمثل بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية المهيمن على ثلث الأراضي السورية، وتقليص النفوذ الإيراني المتنامي، والحدّ من تدفّق اللاجئين السوريين الذين تعدّهم تهديدًا محتملًا لأمن الولايات المتحدة، وتخفيف المعاناة الإنسانية للسوريين؛ خيارات تشكّل بمجملها أسبابًا أولية لإقامة “مناطق آمنة” في المناطق العازلة الخاضعة لسيطرة المعارضة على الحدود مع تركيا والأردن، وعُدّت أفضل وسيلة لمنح السوريين “فرصة” -على حدّ تعبير الرئيس ترامب-  فالسياسة الأميركية الملتزمة بوحدة سورية بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254؛ باتت تؤمن أن سورية مقسّمة بحكم الأمر الواقع، وأن هذه المناطق الآمنة التي يمكن أن تبدأ تركيا بتدشينها، ستؤمّن الغطاء العسكري والسياسي لاجتثاث تنظيم الدولة الإسلامية على طول نهر الفرات، وبحسب دراسة معهد واشنطن (مكافحة الإرهاب وتخفيف المعاناة الإنسانية في سورية) فإن التفاهم التركي – الروسي الذي جرى التوصل إليه في آب/ أغسطس 2016، وقبلت بموجبه روسيا بمنطقة تركية آمنة، بحكم الأمر الواقع، مقابل موافقة أنقرة على سيطرة النظام السوري على حلب، ومنع جماعة “درع الفرات” المدعومة من تركيا من محاربة “قوات سورية الديمقراطية” المدعومة أميركيًا، يعدّ خطوة توافقية أولى نحو المضيّ قدمًا باتجاه إقامة هذه المناطق.

الاندفاع الحالي نحو ضرورة إقامة هذه المناطق الآمنة، لا يعني أن المعيقات السياسية والقانونية التي أجّلت البدء بإقامتها سابقًا تغيرت كليًا، وأن الوضع السوري بات مؤهلًا لمثل هذه المناطق، وأبرز المعيقات السياسية: صراع النفوذ القائم بين الدول المتدخّلة عمليًا في سورية، وغياب التنسيق بين المعارضة السورية السياسية وكثير من الفصائل المقاتلة، متعددة الاتجاهات والتيارات -الإسلامية والثورية- إضافة إلى احتمال استدراج أميركا إلى غمار الحرب في سورية، ومن ثمّ؛ زيادة إمكانية الصراع مع روسيا، والناتج عن حاجة أميركا وحلفائها إلى استخدام مناطق حظر جوي تتحدّى الدفاعات الجوية الروسية، وتضمن رصد جميع المعابر المؤدية إلى المناطق الآمنة، ما يتطلب وجود استعداد أميركي لخوض حرب من أجل اللاجئين. وبحسب ما قاله وزير الخارجية الأميركي السابق “جون كيري”: لكي تكون دائرة ما “منطقًة آمنًة” لا بد لها من أن تكون “آمنًة”، مؤكدًا أن ذلك قد يتطلب إزاحة نظام الأسد، ويُفترض -أيضًا- إزالة الدفاعات الجوية الروسية، والقيام بدوريات في المنطقة، إلى جانب دورية جوية قتالية، وهذا يتطلب نشر بعض القوات البرية، وقدّرته وزارة الدفاع الأميركية بـ (15.000 أو 30.000) جندي، وأكدت التسريبات الأخيرة توجّه أميركي لإرسال مزيد من القوات الخاصة إلى مناطق النزاع، وجرى تفسيرها بأن البيت الأبيض تراجع عن استراتيجية الحرب بالوكالة، وانتقل نحو المشاركة المباشرة، وإنها ستكون جزءًا من التحضيرات؛ لإنشاء المناطق الآمنة المتماشية مع رغبة الرئيس ترامب وتصريحاته.

أما المعيقات القانونية التي جرى ترتيبها في الأعوام السابقة، في مجموعة من القرارات، كقرار مجلس الأمن رقم 2249 الذي يخوّل الدول بالتحرك ضد تنظيم الدولة، وعلى أساسه قامت الولايات المتحدة وغيرها من دول التحالف بشنّ عمليات عسكرية في سورية، دون الحصول على إذن من دمشق، أو القرار رقم 2254 الذي يدعو إلى المساعدة الإنسانية داخل سورية، ويشكّل كلاًّ من موسكو وطهران طرفين فيه، ويمكن اعتماده لتسويغ إقامة المناطق الآمنة، عبر حماية المدنيين ووقف تدفق اللاجئين السوريين “المزعزع للاستقرار” إلى تركيا وأوروبا، ومن ثَم؛ يشكّل غطاءً قانونيًا لإقامة هذه المناطق، وتكون تركيا الأنسب للتعاون مع زملائها في منظمة “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) لإدارة هذه المناطق.

المناطق الآمنة، فضلًا عن كونها قد تدفع نحو مزيد من التطهير العرقي الذي سيكون حجّة بالغة لفرز المناطق، لن تمنع مستقبلًا جماعات المعارضة من شنّ هجمات، انطلاقًا منها، ومن ثَمّ؛ احتمال الردّ من الجهات المستهدفة أو العكس، ولا يلغي تحوّلها إلى أرض خصبة للسلفية، كما حدث في عدة أجزاء من شمالي غربي سورية التي شكّلت معقلًا لـ “جبهة النصرة”، وما زالت تحافظ على شرعيتها وسلطتها الأيديولوجية، على الرغم من عنفها المتكرر الذي تمارسه بحق السكان. وضمن افتراض إمكانية قيامها، يبقى أن تتحول هذه المناطق الآمنة إلى مناطق صالحة للحياة في سورية، إذ لا يكفي تأمين الأمان للاجئين والنازحين داخليًا؛ حتى يعودوا إلى قراهم في غياب الخدمات العامة الكاملة، وتسهيل إمكانية التنمية الاقتصادية، فتوفير الخدمات سيكون أولوية في حسابات المناطق؛ إذ لا يمكن إجبار الناس على العودة لعيش نمط تقشّفي بعد الذي عاشوه من إرهاق وخيبات، وعليه؛ فإن إقامة مثل هذه المناطق سيكون مكلفًا نظرًا لضرورة توفير أماكن إيواء وطعام وتعليم ورعاية طبية للاجئين، وهو ما لم تستطع الدول كافة توفيره في المناطق العازلة التي بنيت في الأراضي المحايدة بين الحدود منذ ست سنوات، ومازالت تفتقر إلى الحاجات الأساسية للإقامة الموقتة.

الوضع السوري المعقّد لا ينفع معه الاستناد إلى بعض المسوغات القانونية، ولا توسيع الخطوات السياسية ودعمها باستعدادات عسكرية، أو تقديم جملة كبيرة من الدراسات التي تقدّم أنصاف حلول، تتجاوز تحديد هدف نهائي قابل للتحقيق، أو وضع خريطة طريق قابلة للتنفيذ، تضمن عودة النازحين واللاجئين، أو إعادة توطينهم في منطقة آمنة. ولن يجديه تجاهل دروس الماضي التي تقدّم نظرة متعمّقة في شأن التحديات والفرص المرتبطة بالجهد الرامي إلى إنشاء هذه المناطق من تجربة العراق (1991 – 1996)، وكانت البذرة لإنشاء “حكومة إقليم كردستان” شبه المستقلة والقائمة اليوم، وتجربة ليبيا (2011) التي لم يولّد فيها النجاح العسكري أيّ نجاح سياسي، بل خلّفت قوات “حلف شمال الأطلسي” نظامًا ضعيفًا وغير مستقر، انهار على يد أمراء الحرب، وغرق في الفوضى التي تمّيز وضع ليبيا الحالي. وعلى الرغم من اختلاف التجارب والأوضاع إلا أن تجارب الدول تفيد في تقدير الأضرار، قبل التسرّع في بناء هذه المناطق، والمخاطرة باحتمال الفشل في ردع العدد الكبير والمعقّد من الفصائل الثائرة والمتطرفة التي تعمل على الأرض، ومن ثَم؛ تحول هذه المناطق بؤر لنزاع مديد وزيادة في المعاناة للمدنيين.

سورية التي تحوّلت إلى حقل تجارب، منذ اشتعال الحرب فيها، لم تخرج من حيّز الاختبارات، فالمناطق الآمنة لن تكون أكثر من اختبار آخر لمناطق رمادية غير واضحة المعالم، تُضبط وتقولب لتواكب إرادة الدول ورغباتها. وإلغاء حسابات المخاطر من إقامتها مجازفة ستضيف بؤسًا آخر، أقلّه أنها ستسرّع شرذمة سورية الممزقة أصلًا؛ بفعل الحرب المستمرة منذ ست سنوات، وستكون ترسيمًا دوليًا -فحسب- لرقع من الأراضي، موزعة بين النظام والجماعات المعارضة المسلّحة والفصائل الكردية وتنظيم الدولة الإسلامية، ومن ثم؛ يجب على المجتمع الدولي التعامل مع مجموعة “سوريات”، لكل منها دولة منتدبة بدلًا من سورية واحدة.

مقالات ذات صلة

إغلاق