أدب وفنون

عاجل وسرّي للغاية

ما أحلانا ما أحلانا دنيانا بعث دنيانا”

قُطع بثُّ تلك الأغنية فجأة، حشرج مكبّر صوت إذاعة المدرسة الثانوية، شَخرَ ومَخر، ثم أصدر صوتًا يوحي بأن اللاقط قد تزحلق على مِبرشة بصل، صفرة طويلة حاكت صور إسرافيل، ثم أتى صوت أمين الفرقة الحزبية حادًا كالديك الصيّاح، ذكر عدة أسماء وكررها، طالبًا من أصحابها الإسراع إلى غرفة التوجيه مباشرة.

لم يكن هذا حدث غير مسبوق إطلاقًا، بل روتينيًا يتكرّر يوميًا عدّة مرات، تشهد عليه وتسمعه نصف المدينة، إلا أن الاجتماع العاجل والسرّي للغاية -كما وصفه الرفيق أمين الفرقة الحزبية، عبر إذاعة المدرسة، التي تُركت مفتوحة سهوًا- كان التفصيل الأول في الحدث غير المسبوق.

توقف جميع طلاب المدرسة تقريبًا عن اللعب والحركة والصخب، وأطلت نسوة الحيّ من شرفات منازلهن المطلة على المدرسة، لإشباع فضولهن بمعرفة فحوى الاجتماع الحزبي العاجل والسرّي للغاي.

“أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أهدافنا: وحدة حرية اشتراكية”. تفضلوا يا رفاق. يا رفاق اجتماعنا اليوم مهم وسرّي للغاي، نعرف “كلياتنا” ما تعنيه سرية العمل الحزبي يا رفاق، التزامنا التنظيمي يفرض علينا طوعًا تنفيذ المهمات الحزبية على أكمل وجه، وبأقصى سرعة، وبمنتهى الإتقان، وبسرّية تامة طبعًا، مثل ما نعرف “كلياتنا” يا رفاق نحن حزب ثوري.

  • “مَعشّ تّدق الباب يا بغل، نحن في اجتماع خرا سري”.

يأتي -هنا- التفصيل الثاني في الحدث غير المسبوق.

لمّا كان معلمو المدرسة جميعهم يجلسون في غرفة الإدارة في تلك الأثناء، يتبادلون النكات الاجتماعية والنهفات الطلابية، والمشكلات الحياتية المعيشية، والحالات المرضيّة، والشكاوى النقابية، غافلين عن الحدث غير المسبوق بكل تفاصيله، لم يجد عامل “البوفيه” بدّا من تولّيه مهمّة إخبار الرفيق أمين الفرقة الحزبية، بأن إذاعة المدرسة مفتوحة في غرفة التوجيه، وبأن اجتماع الرفاق العاجل والمهم والسري للغاية، يُنقل في بثّ حي ومباشر إلى نصف المدينة، وبعد إصراره على ذلك، تحدوه النخوة والشهامة الحزبية الثورية الغيورة، لطرق باب غرفة التوجيه أكثر من مرة، فجاءه الأمر وأتته المعلومة

  • “معشّ تّدق الباب يا بغل.. نحنا في اجتماع خرا سري”.

عاد الرفيق -عامل “البوفيه”- صاغرًا مكسورًا، جارًا ذيول الخيبة بعد نيله لقب البغل، ودفنَ نفسه بين أكوام علب البسكويت والعلكة والمصاص وقوارير “الكازوز” التي تناسبت عكسًا مع اندفاعه الوطني وحماسته الثورية، عندما انطلق شامخًا مزهوًا مسرعًا، نحو غرفة التوجيه، كي يصحّح خطًأ حزبيًا جسيمًا سينال عليه وسام شرف ما، وليس صفة البغل.

لكن التفصيل الثالث في الحدث غير المسبوق، للاجتماع العاجل السري للغاية، صاغ جوهره.

“يا رفاق مثلما نعرف “كلياتنا”، رفاقنا في مديرية الصحّة صاروا مسجلين أكثر من حالة تسمم غذائي من جراء تناول بعض رفاقنا المواطنين “للفطورة”، والرفيق مدير المشفى الوطني، خاطب الرفاق في قيادة فرع الحزب، عبر كتاب رسمي، بما يشبه الشكوى، واتهم بعض الرفاق بالتقصير الحزبي، وبعدم توعية المجتمع لمخاطر الفطر السام، وبعدم قدرة المواطن التمييز بين الفطر السام والفطر الصالح للأكل، طبعًا، مثلما نعرف “كلياتنا” يا رفاق، الموضوع معقد وفيه ملابسات كما تبين لاحقًا، لأن ما حدث أمر مختلف، مثلما نعرف “كلياتنا” يا رفاق، رفاقنا الزملاء بهيئة الإرشاد الزراعي مشكورين، وجّهوا كتاب إلى رفاقنا بهيئة الحِراج، بضرورة رش الحرش بالمبيدات الحشرية، حرصًا من الحزب على الغطاء النباتي والثروة الحراجية، طبعًا يا رفاق مثلما نعرف “كلياتنا”، رفاقنا بالحِراج ما قصّروا، طلعت الطيارات ورشّت المبيدات على الشجر. الذي صار يا رفاق، ومثلما نعرف “كلياتنا”، “شتت” الدنيا بعدها بفترة قصيرة، ونزلت السموم والمبيدات الحشرية كلها لتحت الشجر، هذا كان السبب الرئيس في تسمّم ا”لفطورة”، وتسمّم بعض الرفاق المواطنين بعد أكلهم لها، يعني الموضوع ليس تقصيرًا تثقيفيًا حزبيًا، كما ورد في كتاب الرفيق مدير المستشفى الوطني بالمحافظة، الموجّة إلى الرفاق الزملاء في فرع الحزب، بس يا رفاق مثلما نعرف “كلياتنا”، الالتزام بتنفيذ التوجيه الحزبي أمر مفروغ منه وغير قابل للتأخير، ونحن الرفاق أعضاء فرقة، وصلنا الكتاب الموجّه من الرفاق في قيادة الفرع، بضرورة تثقيف الرفاق المواطنين؛ لتمييز الفطر السام من الفطر الصالح للأكل البشري، إنما لم يصلنا بعد الكتاب التوضيحي بالملابسات اللي حدثت وحكينا عنها، وحقيقة ما جرى عمليًا، لذلك؛ وطبعًا مثلما نعرف “كلياتنا”، إلى أن يدور الكتاب التوضيحي على الزملاء والرفاق بمديرية الصحة، ويعمم على مراكزها، ثم مديرية الإرشاد الزراعي، وخصوصًا الرفاق في الهيئة الحراجية، واجبنا الحزبي يقتضي البدء بحملة توعية وتثقيف للرفاق المواطنين؛ ليصبحوا قادرين على تمييز الفطر السام من الفطر الصالح للأكل. اجتماعنا هذا توضيحي استباقي فحسب، ويبقى سري للغاية، ريثما تأتينا التعليمات الإجرائية التنفيذية من الرفاق بفرع الحزب. هكذا يكون قد انتهى اجتماعنا. في أي استفسار يا رفاق؟ “لكان” طبعًا مثلما نعرف “كلياتنا”، تفضلوا ترديد الشعار لو سمحتم: – أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. أهدافنا، وحدة حرية اشتراكية.”

عاد صخب طلاب المدرسة إلى سابق عهده، قبل الاجتماع العاجل والسري للغاية، عادت حياة الحي إلى حالتها الطبيعية، وتابعت إذاعة المدرسة…

“ما أحلانا ما أحلانا دنيانا بعث دنيانا”.

مقالات ذات صلة

إغلاق