2
خلال الحرب العالمية الثانية، لُقب الأميركيون الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية بـ “مناهضي الفاشية الأغرار”، أي: إن القتال ضد هتلر في الأربعينيات كان واجبًا أخلاقيًا لكل أميركي جيد، لكن القتال ضد فرانكو كان مبكرًا في الثلاثينيات، باعثًا على الامتعاض؛ لأن الذين شاركوا فيه كانوا شيوعيين وغيرهم من اليساريين. لماذا استُخدم تعبير مثل “خنزير فاشي” من المتطرفين الأميركيين -بعد ثلاثين سنة- للإشارة إلى شرطي لم يوافق على عاداتهم في التدخين؟ لماذا لم يقولوا: خنزير كاغولي أو خنزير فلانجي أو خنزير اوستاشي أو خنزير كيسلنغي أو خنزير نازي؟
إن كتاب كفاحي إعلان عن برنامج سياسي كامل. حملت النازية النظرية العنصرية والشعب الآري المختار، مع نظرية محددة عن الفن المنحط، فلسفة إرادة القوة والسوبرمان. كانت النازية -قطعًا- معادية للمسيحية ومؤيدة للوثنية الجديدة، بينما كانت المادية الجدلية الستالينية (النسخة الرسمية للماركسية السوفياتية) مادية وإلحادية بشكل سافر. إذا كنا نعني بالشمولية نظامًا يُخضع كل فعل فردي لسلطة الدولة وأيديولوجيتها، نجد أن النازية والستالينية كانتا نظامين شموليين.
الفاشية الايطالية كانت ديكتاتورية، لكن لم تكن شمولية تمامًا، ليس بسبب لينها، وإنما بسبب الضعف الفلسفي لأيديولوجيتها. وبعكس الرأي الشائع، لم يكن للفاشية في إيطاليا فلسفة خاصة. أدخل موسوليني مقالًا عن الفاشية في موسوعة تريكاني، المقال الذي كتبه، أو على الأقل ألهمه جيوفاني جنتايل، عَكَس مفهومًا هيجليًّا متأخرًا عن الدولة المطلقة والأخلاقية، وهو ما لم يدركه موسوليني تمامًا. لم يكن لموسوليني أي فلسفة؛ ما كان لديه هو الخطابة. كان عسكريًا ملحدًا في البداية، ثم وقع معاهدة مع الكنيسة، ورحب بالأساقفة الذين باركوا الشعارات الفاشية. خلال سنواته الأولى المُقاومة للإكليروس -وفقا لأسطورة محتملة- طلب موسوليني -مرة- من الله أن يثبت وجوده، وأن يصعقه حالًا في مكانه. لاحقًا، استشهد موسوليني باسم الله في خطاباته، ولم يمانع أن يُلقب برجل العناية الإلهية.
كانت الفاشية الإيطالية أول ديكتاتورية تنتمي إلى الجناح اليميني، تستولي على بلد أوروبي، ووجدت كل الحركات المشابهة التي جاءت بعدها في نظام موسوليني نموذجًا أصليًّا. الفاشية الايطالية كانت أول ما أسس لطقوس عسكرية (فلكلور وحتى طريقة لباس)، فلن تصل يومًا تصاميم ارماني، بينيتون وفرساتشي، للتأثير الذي وصلت إليه القمصان السود. بحلول الثلاثينيات ظهرت الحركات الفاشية مع موسوليني في بريطانيا العظمى، وكذلك في لاتفيا، استونيا، ليتوانيا، بولندا، هنغاريا، رومانيا، بلغاريا، اليونان يوغوسلافيا، اسبانيا، البرتغال، النرويج، وحتى في جنوب افريقيا. كانت الفاشية الإيطالية هي من أقنعت عددًا من القادة الليبراليين الأوروبيين بأن النظام الجديد يحمل اصلاحًا اجتماعيًا مثيرًا للاهتمام، وبدا بديلًا ثوريًا أقل حدة من الخطر الشيوعي.
مع ذلك، فالأولوية التاريخية لا تبدو لي سببًا كافيًا لشرح تبعيض كلمة الفاشية، أي: إن الكلمة يمكن استخدامها في وصف حركات شمولية مختلفة. ليس ذلك بسبب أن الفاشية محتواها في ذاتها، إذا جاز التعبير، تكمن في جوهرها كل السمات لأي شكل من الشمولية. والعكس صحيح، فهي خالية من الجوهر.
الفاشية كانت شمولية مشوشة، جامعة أفكارًا فلسفية وسياسية مختلفة، إنها قفير يعج بالتناقضات. هل يمكن للمرء أن يتصور حركة شمولية حقيقية استطاعت جمع الملكية والثورة، الجيش الملكي مع ميليشيات موسوليني الخاصة، منح الكنيسة ميزات مع التعليم الحكومي لتمجيد العنف، سيطرة الدولة التامة مع أسواق حرة؟ ولد الحزب الفاشي متفاخرًا بجلبه نظامًا ثوريًا جديدًا، ومع ذلك؛ مُوّل من أكثرهم محافظة من بين ملاك الأراضي الذين توقعوا منه ثورة مضادة. في بدايتها كانت الفاشية جمهورية، ومع ذلك دامت عشرين عامًا تدين بالولاء للعائلة الملكية، بينما كان الدوتشي (القائد الأعظم بلا منازع) يضع يده بيد الملك الذي منحه –أيضًا- لقب الإمبراطور. ولكن عندما طرد الملك موسوليني عام ١٩٤٣، أعاد الحزب ظهوره بعد شهرين، بدعم ألماني، تحت معيار الجمهورية الاشتراكية، وأعادت تكرير نصها الثوري القديم، لكن هذه المرة النص مدعوم بصبغة يعقوبية.
هناك أنموذج واحد للعمارة النازية وللفن النازي. لو كان ألبرت سبير معماري نازي، لن يكون هناك مكان لميز فان دير روش. وبالمثل تحت حكم ستالين، لو كان لامارك لما كان هناك مكان لداروين. بالتأكيد، وجد في إيطاليا معماريون، ولكن قريبًا من أعمالهم المستعارة من عمارة الكولوسيوم، وُجد كثير من المباني الجديدة المستلهمة من العقلانية الحديثة لأعمال غروبيوس.
لم يكن هناك فاشي مثل زادنوف يرسم خطًا ثقافيًا. في إيطاليا هناك جائزتان مهمتان، إحداهما جائزة بريمو كريمونا، وكان يتحكم بها فاشي متعصب، وغير مثقف، يدعى روبيرتو فاريناشي، شجع الفن من أجل البروباغاندا. (أذكر لوحات تحمل أسماء مثل الاستماع بجانب المذياع لخطاب الدوتشي، أو أطوار ذهنية خلقتها الفاشية). أما الأخرى تدعى بريميو برغامو، كانت تحت رعاية جوسيب بوتاي، فاشي مثقف وأكثر اعتدالًا، حمى مفهوم الفن لأجل الفن، وأنواعًا كثيرة من الفن الرائد الذي حُظر؛ لأنه فاسد ويضمر تعاطفا مع الشيوعية في ألمانيا.
شاعر الوطن كان دانونزيو، شاعر غندور، لو كان في ألمانيا أو روسيا، لأرسل إلى فرقة الإعدام. جرى تعيينه شاعر النظام؛ بسبب قوميته وتقديسه للبطولة، كانت في واقع الأمر خليطًا من تيارات فرنسية رثة صاحبت مطلع القرن.
لنأخذ مثلا الحركة الفنية المستقبلية، قد يظن المرء أنه كان يمكن أن يوضع في فئة “الفن المنحط” حسب التسمية النازية، مع الأعمال التجريدية، التكعيبية، والسريالية. لكن رواد الفن المستقبلي الطليان كانوا قوميين، فضلوا مشاركة إيطاليا في الحرب العالمية الأولى لأسباب جمالية، احتفوا بالسرعة، العنف، والمخاطرة، كل ذلك يبدو مرتبطًا بعقيدة الفاشية عند الشباب. وفي الوقت الذي قارنت فيه الفاشية نفسها بالإمبراطورية الرومانية وأعادت اكتشاف التقاليد الريفية، عُيّن مارينيتي عضوًا في الأكاديمية الإيطالية (الذي أعلن أن السيارة أجمل من تحفة آلهة النصر اليونانيه ساموثريس، وحتى أنه أراد قتل ضوء القمر)، بعد ذلك تعاطى مع ضوء القمر بكل احترام.
تلقى كثير من البارتيزان والمثقفين المستقبليين المنتسبين للحزب الفاشي تعليمهم من رابطة الطلاب الجامعيين الفاشي، وكان من المفترض أن يكون مهد الثقافة الفاشية الجديدة. باتت هذه النوادي بوتقة ثقافية؛ حيث تتداول الأفكار الجديدة دون تحكم أيديولوجي، ليس لأن رجال الحزب تسامحوا مع مثل هذا التفكير الراديكالي، لكن قلة منهم كانت لديهم الأدوات الثقافية للتحكم بها.
خلال تلك الأعوام العشرين، كانت أشعار مونتال وغيره من الكتاب مرتبطة بمجموعة تدعى الهرمسية جاءت ردة فعل على الأسلوب الطنان للنظام، وسُمح لهؤلاء الشعراء بأن يطوروا مظاهرتهم الشعرية داخل ما عُدّ برجهم العاجي. كان مزاج الشعراء الهرمسيين والعقيدة الفاشية القائمة على التفاؤل وتمجيد البطولة، على طرفي نقيض، واحتمل النظام سفورها حتى لو كانت غير ذات شأن على المستوى الاجتماعي، كانت مُنشقه لأن الفاشيين بكل بساطه لم يهتموا بمثل هذه اللغة الغامضة.
كل ذلك لا يعني أن الفاشية الايطالية كانت متسامحة. فقد زُج بغرامشي في السجن حتى وفاته، قادة المعارضة جياكومو ماتيوتي والأخوان روسيلي اغتيلوا، وحُظرت حرية الصحافة، وحُلّت النقابات العمالية، ونُفي المنشقون السياسيون إلى جزر بعيدة. السلطة التشريعية باتت خيالًا فحسب، والسلطة التنفيذية (التي تحكمت بالسلطة القضائية والإعلام) سَنت مباشرة قوانين جديدة، من بينها قوانين دعت إلى حفظ العرق (بادرة الدعم الإيطالي الرسمي للهولوكوست).
الصورة المتناقضة التي أصفها لم تكن نتيجة التسامح، وإنما نتيجة تشوش سياسي وأيديولوجي. تشوش صلب، ارتباك منظم. كانت الفاشية مضطربة فلسفيًا، ولكن -حسيًا- مقيدة ومثبته بدعائم قياسية مكررة.