أدب وفنون

عندما يكون العالم كلّه سفليًا

يبدو أن الوجهة هي هكذا دائمًا: من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال. اتجاه إجباريّ للسير، للرحيل، للبحث عن وطن بديل، للغرق في مياه أقل كثافة، لمحاولة الحياة ذاتها في وسط آخر، لاختبار الذوبان أو نقيضه في هواء مغاير يهز الروح والجسد. وتبدو الكلمات القديمة ذاتها: الفقد، الترك، الرحيل، الاقتلاع، الاندماج، التوطين، التكيف، الرعب، الضياع، الفرَص، الآخر، الاختلاف، الهوية الحياة والموت. تبدو هذه الكلمات وكأنها تلخص الكلمة المغرية ذاتها، المغلفة بمتعة الكشف وخطره، بألم المحاولة واحتمالاتها، المسوَّغة بالتجريب والبحث عن مجهول ما، برعب البقاء ورعب الذهاب أيضًا، الملفوفة بضباب الأسئلة المشروعة: ما الذي يدفعك؟ ما الذي يبقيك؟ الكلمة المقالة بسهولة صعبة: هجرة. لتولد بعدها ثنائيات التناقض، ولن تكون لغة أو صيغة لفظية لتأطير المشهد فحسب، بل ثنائيات تجد معادلها الألميّ في كل ما ينبض، في كل ما ينحل في سوائل الجسد، في كل رؤيا، وكل عمل: الهنا-الهناك، الداخل-الخارج، الوطن-المنفى. وسيجد الجواب نفسَه مخفورًا بالقسر، وهو وحده ما يبرر الفعل. عندها تأخذ اللفظة نفسها صيغة أكثر حدّة: تهجير.

ضد الرواية

في روايتها: “بوذا في العالم السفليّ” تعير الكاتبة اليابانية، جولي أوتسوكا، حنجرتَها لآلاف النساء اليابانيات، وتصرخ بأصواتهن جميعًا، أصوات المهاجرات إلى أميركا في بدايات القرن العشرين، بحثًا عن حلم لن يكون هو الحلم الأميركيّ في أي حال، وإنما حلم مهاجر، حلم مطرود، حلم الرفاه، العيش والحب، حلم مدفوع بالرغبة والوعد. لنجد أنفسنا، متماهين مع أصوات تهمس ملء روحها، أمام رواية أخرى ليست متخيلة بقدر ما هي واقعية، وليست واقعية بقدر ما هي توثيق الواقع كما حدث فعلًا، كما صاغته المخيلة لاحقًا، رواية وضع النقط على الحروف، النقط التي قد تكون من سائل حارق، الحروف التي قد تكون أيامًا منسية فُقدت من الذاكرة العامة وبقيت تمارس سلطة الحضور في مخيلة كتّاب يحملون حساسية تجاه الصدق التاريخيّ، ونكون مرة أخرى أمام رواية “متعددة الأصوات”، كأننا أمام ذاكرة جماعية، أو صيغ متعددة للكشف، صيغة فردية “بمعنى الجمع”، صوت امرأة مجدول من حبال صوتية لآلاف النساء. ولن نجد بداية واحدة بل بدايات، ولن نجد حبكة، ولا حتى نهاية، بل نهايات مفتوحة على توقع الألم من أول السطور، ولن نجد أنفسنا أمام رواية تسرد تفاصيل حياة شخص أو انعكاسات الزمن عليها، بل حيوات كثيرة حفرت نهرها الخاص في الزمن، وتصبح صيغة الخطاب السرديّ هو هذه الـ (نا) الدالة على المفعول بهن.

هذه هي القصة بموجزها إذن: انتقال واعٍ مدفوع بالأمل “من مزارع الأرز إلى مزارع كاليفورنيا” وليس أية جنة غربية أخرى. على الباخرة كان الحلم متضخمًا “مرحبًا أيتها الآنسات اليابانيات”، والزمن بشكله المستقبلي المحلوم به مكون من ثلاثة ألوان: “كومينو من الحرير الأبيض ليلة العرس، كومينو من القطن الملون لسائر الأيام، وآخر أكثر احتشامًا لاستعماله في خريف العمر”، وصور الرجال العرسان محفوظة في علب صغيرة مرصعة تتدلى من الأعناق. على اليابسة بدأ الزمن العاري يكشف عن نفسه المقنّعة ويبدأ من أول ليلة فعل الأخذ” أخذونا على عجل، أخذونا بهدوء، أخذونا على الأرض، على البلاطة العارية، أخذونا….”ويبدأ العمل من مزارع العالم الشرقي إلى مزارع العالم الغربي “نحن الآن في أميركا حيث نقلع الأعشاب الضارة لصالح رجل ضخم الجثة يدعى المعلم” وتتنوع الأعمال وتتنوع الإهانة، من مزارعة إلى خادمة إلى عاملة إلى مربية إلى أم مقتولة الأمومة “وضعنا عند جذع سنديانة في الصيف، وضعنا حدو تنور حطب في الغرفة الوحيدة لتخشيبتنا، وضعنا في جزر الدلتا، في مخيمات متربة….”وتتشكل كتلة بشرية من مهاجرات وأطفالهن وأزواجهن وتتشكل أحياء يابانية وتأخذ ملامح مدينة ضمن مدينة، جزر معزولة ضمن بحر، كاليابان ذاتها،  ليصل الزمن إلى النقطة الحرجة دائمًا التي تعيد الأمور إلى نقطة الصفر: الحرب. وتبدأ العمليات العسكرية اليابانية الأميركية في الحرب العالمية الثانية، ويبدأ النظر إلى اليابانيين المهاجرين بعدّهم “خونة”: “محونا أسماءنا عن صناديق البريد، سحبنا أحذيتنا الموضوعة أمام أبوابنا” ويأتي اليوم الأخير الذي يبدأ فيه النزوح والهجرة من جديد، وكأن الزمن ينوس بين لحظتين، بين هجرتين: الهجرة والهجرة المضادة.

هذه هي القصة بتفاصيلها إذن: الحلم وانكساره، الألم ومحاولة تفاديه، والهروب من الـ “هنا” إلى الـ “هناك”، من الـ “هناك” إلى الـ “هنا”، إلى الـ “لا مكان”.

“تسامي يا روحي تسامي”

إن كنا نشهد تقسيمًا عموديًا للعالم يحمل تأثيرًا غيبيًا: عالم سفلي وعالم علوي، فإننا وبشكل محايث وواقعي نشهد تقسيمًا أفقيًا للعالم: عالم شرقي وعالم غربي، عالم جنوبي وآخر شمالي. ويبدو الفرق في المستوى الحياتي المعيشي والتطوري، واضحًا بين العوالم المعمول بها. إن عنوان الرواية يحمل مفارقة ودلالة. المفارقة هي أن بوذا الشخصية المتسامية في جوهرها باتت تسكن العالم السفليّ، وهذا التضاد يوحي بالدلالة العميقة التي لن تكون دينية مطلقًا بل تشير إلى انحطاط بشري، عُبّر عنه بتلك المعاناة التي تعرّضت لها النساء اليابانيات. إن كلمة مثل حضيض قد تكون مناسبة للإذلال الممارس من إنسان تجاه إنسان آخر. عندئذ يصبح العالم كله سفليًا.

 

الكتاب: بوذا في العالم السفلي

الكاتبة: جولي أوتسوكا

المترجم: أبو بكر عيادي

الناشر: مسكيلياني للنشر-تونس-2016

مقالات ذات صلة

إغلاق