مقالات الرأي

عن الثورة السورية المتخيّلة

تأسّس تخيّل الثورة السورية في أذهان كثيرين، ومعظم الثورات تبنى على تخيّل معيّن، على عدة مسلمات جرى التعامل معها، على الأغلب، بصورة يقينية، وثابتة، على الرغم من اتضاح خطئها، في مجال الممارسة، وعلى الرغم من كل ما شهدته هذه الثورة من تحولات وتعقيدات ومخاطر كارثية، أضرت بها، مثلما أضرت بمجتمع السوريين، على مر السنوات الست الماضية.

في هذا الإطار يمكننا عرض بعض هذه التخيلات، من دون أن يعني ذلك الحط من مشروعيتها، أو من واقعيتها التي جرى التعاطي معها بعدّها بديهيات، والنظر إليها بوصفها نتيجة حتمية للثورة.

في هذا الإطار تأتي، مثلًا، فكرة أن “الشعب السوري واحد”، إن كانت بديهية أم نتيجة متوخّاة، لكن مسار الثورة، بالشكل الذي تمت عليه، ولا سيما بعد تحولها إلى الصراع المسلح، الذي تمحور حول فصائل عسكرية إسلامية، على الأغلب، لم ينسجم مع هذه المقولة شعارًا، ولم يؤسَّس لها هدفًا.

والحال، فقد استدرجت الثورة، التي طبعتها الفصائل الإسلامية المسلحة بطابعها، إلى المربع الذي أراده لها النظام، في تصويرها أنها ثورة جماعة طائفية معينة، من دون أن يعني ذلك هذه الطائفة التي لا تعرّف نفسها أصلًا على هذا النحو. المهم أنه -في الحصيلة- لم تظهر الثورة -بطابعها- ثورةً وطنية ديمقراطية، وثورة تؤسس لمجتمع ودولة المواطنين الأحرار المتساوين، أو لدولة مدنية ديمقراطية (لا طائفية ولا دينية ولا عسكرية)، ولا شك في أن ذلك أثّر في صدقيتها أمام شعبها والعالم.

التخيل الثاني، يتمثل بالثورة التي تنجز أهدافها بصورة حتمية، وبالضربة القاضية. وهذا التخيّل غير واقعي، أو إرادوي، كونه لا يقارب أي تجربة تاريخية، إذ إن الثورات يمكن أن تفشل، ويمكن أن تنجح، ويمكن أن تحقق أهدافها جزئيًا، أو على مراحل، ويمكن أن تنحرف أيضًا، أو أن تدخل في مساومات. ونتيجة هذا التخيّل؛ فقد حُرمت هذه الثورة التي ظلت تتسم بالعفوية، والتجريبية، والإرادوية، وتفتقر إلى كيانات سياسية مجربة، ولتراث ثوري سابق، أنها حرمت من فرصة المراجعة، أو من إدراك كيفية السيطرة على وتائرها، بحيث تعرف متى يمكن أن تتقدم ومتى يمكن أن تتراجع، ومتى يمكن أن تتوقف؛ حتى لا تضيع إنجازاتها.

وفي مراجعة متأنّية، ونقدية، يمكننا ببساطة رؤية أن الثورة حقّقت أفضل ما حققته في العام الأول، قبل انحصارها في الصراع العسكري الذي أفلت يد النظام ضد أغلبية الشعب، أو ضد ما عدّه البيئات الحاضنة، فأمعن فيها قتلًا وتدميرًا وتشريدًا. ففي تلك المرحلة كسرت الثورة الخوف في قلوب السوريين، وأخرجتهم إلى الشارع، أي: أدخلتهم في السياسة، وفي صنع تاريخهم، أما ما بعد ذلك، ومع الاحترام للتضحيات والبطولات، فقد كان فائضًا لم يغير من معادلات الصراع مع النظام، ولم يعزز الإنجازات المتحققة، بل إنه أكل منها، علاوة على أنه أدى إلى خراب البلد، وتفكيك المجتمع، وتشريد ملايين السوريين. نعم كان ينبغي إدراك أن ما تحقق بمنزلة مرحلة يحتاج فيها الشعب إلى التقاط أنفاس، وتحتاج فيها الثورة إلى تغير في الأوضاع العربية والدولية، بانتظار مرحلة أخرى، ربما، إذ لا توجد ثورات إلى الأبد، ولا سيما أن صفقة الكيماوي -مثلًا- (آب/ أغسطس 2013) التي أكدت أنه لا وجود لخطوط حمر، بينت أن النظامين الدولي والإقليمي لن يسهلا على الثورة، وأن هذه الثورة لن تستطيع تحقيق الغلبة على النظام وحليفتيه: إيران وروسيا، في هذه الأوضاع.

التخيّل الإرادوي، أو الرغبوي، الثالث الذي يمكن التحدث عنه، يتعلق بالنظر إلى الحالة السائدة بوصفها ثورة، في حين أن الواقع لا يتطابق مع ذلك. فعلى الرغم من مرور ستة أعوام من التجربة، بكل ما لها وما عليها، فإن هذه الثورة لم تستطع أن توجد طبقة سياسية متماسكة، ولا إنتاج كيانات سياسية ناضحة ووازنة، وذات طبيعة تمثيلية، كذلك لم تستطع إنتاج خطابات سياسية وطنية وجمعية، بل إن الفجوة بين “كيانات” المعارضة، السياسية والعسكرية والمدنية، من جهة، ومجتمعات السوريين في الداخل والخارج تزداد اتساعًا؛ بسبب ضعف صدقية هذه المعارضة، وتخلف إدارتها وتخبّط خطاباتها، وطريقة إدارتها لمجتمعات السوريين في المناطق “المحررة”، بل إن المعارضة السياسية لم تستطع أن تفتح مكاتب لها في تلك المناطق التي باتت بمنزلة إمارات عسكرية تتبع هذا الفصيل أو ذاك، في غياب للحالة الوطنية. هذا لا يقلل من قيمة الحال الثورية، أو من مشروعية الثورة، وإنما هذا يصف حال المعارضة، أو الحال السائدة للمعارضة بواقعها الراهن.

التخيّل الرابع يتعلق بوهم الثورة المسلحة؛ إذ إن الثورة السورية، ولأسباب ذاتية وموضوعية، أي خارجة عن إرادتها، وبحكم طبيعة النظام والأوضاع الإقليمية والدولية، لم تستطع أن تطلق ثورة وطنية مسلحة، بمعنى الكلمة، بل إن انزلاقها نحو هذا الشكل أوقعها في مشكلات جمة، لأنها أصلًا عفوية، وتفتقر إلى التنظيم وللخبرة وللقيادة، وتفتقر إلى القدرة على التأثير في مجتمعات السوريين، لذا؛ فقد سهّل انزياحها نحو العمل المسلح، الذي نشأ بداية ردة فعل على انتهاج النظام للحل الأمني، وقوعها رهينة الدول الداعمة، ورهينة توظيفاتها وأولوياتها وتلاعباتها بثورة السوريين. وفي النتيجة؛ فإن العمل المسلح بالشكل الذي جرى فيه (تحرير مناطق) كان فوق طاقة الثورة، وأثقل عليها، ولا سيما أن بناها لم تكن مؤهلة، وأدخل البيئات الحاضنة في أوضاع كارثية، من ضمنها إخضاع مناطقها لحصار مشدد، أو لتشريد أهلها، ما نجم عنه إخراج الشعب من معادلات الصراع، وظهور مشكلة اللاجئين السوريين.

يبقى التخيّل الخامس، ويتمثل في أن الثورة السورية ينبغي أن تحقق أهدافها كاملة، بحساب أنه لا يمكن قبول أقل من ذلك، بعد كل هذه التضحيات والمعاناة. وبديهي أن هذا كلام صحيح نظريًا، ومبدئيًا، ومن زاوية العدالة، لكن طريقة عمل الصراعات السياسية ليست على هذا النحو، إذ تخضع لموازين القوى، ولمعطيات القوة الكامنة والظاهرة، وللأوضاع المحيطة أو للمداخلات الدولية والإقليمية. والمعنى أن الثورات يمكن أن تتعرض لضغوط ومساومات، ولمرحلة أهدافها، ولا سيما إذا كانت غير قادرة -في المدى المنظور- على تحقيق ما تريد بقواها الذاتية الخاصة، وإذا تبين أنها يمكن أن تستثمر في الوضع الدولي؛ للتعويض عن ضعف إمكاناتها. ولعل ذلك أكثر ما ينطبق على الثورة السورية التي تحتاج إلى إيجاد تقاطعات في رؤاها وتصوراتها لمستقبل سورية والسوريين جميعًا، مع تصورات وقيم الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري، وتؤدي إلى الانتهاء من حكم سلالة الأسد، والتأسيس لدولة مواطنين أحرار ومتساوين، دولة مدنية ديمقراطية، لجميع السوريين.

هكذا؛ فالثورات العفوية لا يمكن هندستها، ولا توقع تداعياتها، لأنها تحدث بالطريقة التي تحدث بها، ووفقًا لمستوى تطور مجتمعها، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، ولطبيعة المعطيات المحيطة بها.

مقالات ذات صلة

إغلاق