تشير الأزمة الأوروبية- التركية حاليًا، إلى أن الجانبين كانا يحتالان على استيعاب ارتدادات أزمة اللاجئين، فقد وُجد الغرب أن تركيا يمكن أن تتحمل الأزمة وعواقبها، في حال أُغريت ببعض الأموال، حتى لو سبّب اللاجئون أزمات داخل المجتمع التركي.
صعّدت تركيا من خطابها الدبلوماسي، بعد أن منعت هولندا وزير الخارجية من استخدام مطاراتها، ووصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعض الدول الأوروبية ببقايا “النازية والفاشية”. يبدو أن الخلاف التركي الأوروبي حول انضمام تركيا إلى الاتحاد، ليس مرتبطًا بمعايير أو آليات يجب الالتزام بها، كما كان يقال سابقًا، بل هو أعمق من ذلك بكثير.
ربما الحذر الأوروبي من الحركات الإسلامية، هو من يهيمن على العقلية الاوروبية التي تدير دفة التفاوض بين الجانبين.
وفي الجانب الآخر، ربما تكون “المظلومية الإسلامية” التي ترى أن الغرب لا يريد منح الفرصة لأي دولة إسلامية كي تنمو نموًا سليمًا، هي ما يجعل السياسة التركية حذرة وقلقة نحو أوروبا.
كلتا الحالتين فيهما قدر من الصحة، لكن قطار ما يسمى “التطرف الإسلامي” الذي يخافه الغرب، هو حقيقة مرتبطة بتلك السياسات الغربية نفسها التي تحمل ازدواجية معايير، من خلال حرصها على التغاضي عن أنظمة دكتاتورية تحجب النور عن شعوبها، مقابل اتفاقات أمنية وعسكرية، لا يمكن أن تقاس مردوداتها باتفاقات تعاون متكاملة مع أنظمة ديمقراطية ووطنية تسعى لنمو شعوبها.
الاتحاد الأوروبي تعامل بخبث منقطع النظير مع الثورة السورية، فهو من جهة يريد تسويق بشار الأسد، ومن جهة أخرى يغض الطرف ويتعامل بمنتهى التساهل مع التنظيمات الشيعية المتطرفة التي تقاتل إلى جانب بشار الأسد في سورية. كذلك يغض النظر عن التطرف الذي تتعامل به أنظمة ظاهرها علماني وباطنها طائفي كنظام الأسد. يفعل الغرب ذلك دون أن ينسى “لفت النظر إلى ” التنظيمات السنية” بعدّها المتطرفة.
لم تكن الأزمة بين تركيا والغرب لتحدث حاليًا لولا استمراء الغرب، للثورات المضادة للربيع العربي، ولولا تغاضيه عن تمدد أذرع إيران الإرهابية، وبينهما الاستمتاع الأممي بمنظر الصور المسربة من معتقلات وسجون الأسد، وبمنظر اللاجئين الذين سيبقون على ما يبدو في فوهة مدافع الصراع حيث التهديد والوعيد لهم وبهم، تمامًا مثلما أرادها الأسد.
أزمة اللاجئين التي حضرت وبقوة في قمة بروكسل، تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، فقد وعد خلالها الاتحاد الأوروبي بتقديم 3 مليارات يورو لتركيا، مساعدةً لها في استقبال اللاجئين السوريين، واتفق الطرفان على “خطة عمل مشترك”، تضع حدًا لعبور اللاجئين نحو أوروبا، مع عودة التفاوض لانضمام تركيا إلى الاتحاد، وهو ما وصفه رئيس الوزراء التركي -حينذاك- أحمد داوود أوغلو بأنه “يوم تاريخي”.
عدّ أوغلو -أيضًا- أن انضمام تركيا إلى دول الاتحاد “هدفًا استراتيجيًا”، وأن عام 2016 سيكون “مفصليًا” في العلاقات التركية- الأوروبية، وأكد أن تركيا ستستمر في إصلاحاتها الديمقراطية، وتلتزم ببنود الاتفاق.
اليوم يبتعد الطرفان عن بعضيهما، فالغرب بات ينظر إلى الدين الإسلامي أيديولوجيا سياسية، من خلال طرح بعض الإسلاميين الإسلام هوية سياسية.
أزمة اللاجئين السوريين هي التي دفعت إلى إحياء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولهذا لم تكن تستند المفاوضات إلى أسس واقعية بل على أحداث طارئة جرى الاستنفار لمواجهتها.
أغرق النظام السوري دول الجوار، ومن ثم؛ أوروبا باللاجئين، وكثير من الدول والمنظمات ينظرون إلى هذه الظاهرة من الجانب الإغاثي فحسب، بينما نظام الأسد دفع بها قضية سياسية دون أن يكترث لطابعها الإنساني.
تجاهل الاتحاد الأوروبي أسباب المشكلة المتعلقة بجرائم الأسد، وبدت أوروبا ليست قارة عجوزًا فحسب، بل مجموعة بلدان تغوص في الغباء والترهل السياسي.
عوضًا عن بحث الجانبين: التركي والأوروبي في أصل المشكلة المتفاقمة في الشرق الأوسط، وتجميع الجهد للحد من تداعياتها، قدم الجانبان فرصة ذهبية جديدة للأسد.
ما يجري حاليًا صراع من نوع جديد بين أوروبا وتركيا، يتم حشر اللاجئين فيه عبواتٍ مدفعيةً جاهزة للإطلاق من منصاتها بين الجانبين. التهديد التركي بهم من جهة، وصعود الأحزاب المتطرفة في أوروبا بخطاب معاداتهم، من جهة ثانية.
نهضت تركيا، ودخلت مجموعة العشرين الأقوى اقتصاديًا، واعتقدت أن هذا يكفي، ولم تُلقِ بالًا إلى مكامن القلق الغربي من أيديولوجيا إسلامية يراها على أبوابه، بل يعتقد أنها تزحف إلى داخله مع اللاجئين.
لم تنتبه تركيا -ربما- إلى أن الغرب بات يرى الإسلام السياسي مرتبطًا بالقاعدة وتنظيم الدولة، حتى لو لم يصرّح علنًا بذلك، فعوملت تركيا ضمنًا، وكأنها إحدى هذه الأخطار التي يجب تحجيمها أو حتى هزيمتها سياسيًا.