باستثناء قلة قليلة ممن كانوا قبل ست سنوات يتابعون الشأن السوري عن كثب بقدر كبير من البصيرة، كان الجميع يستبعد أن ينتقل الحراك الثوري العربي الذي دشنه بوعزيزي في تونس إلى سورية مثلما انتقل إلى مصر وليبيا. ومع ذلك انفجرت الثورة في سورية، وكانت المفاجأة صاعقة. وأراد من يملك حق الردّ أن يكون ردّه أيضًا صاعقًا، وعلى غير العادة، فوريًا. إذ رأى في السرعة “الوقت الملائم” الذي كثيرًا ما كان يفضل تحديده من أجل الرد على الأعداء، ولا سيما أن هؤلاء كانوا شعبًا بأكمله، خرج يهز عرش نيف وأربعين عامًا من حكم “أسرة” أراد مؤسسها أن يسير على هدي الملوك السابقين والمعاصرين.
ونظرة إلى ما حدث في السنوات الست الماضية، توضح لكل من لم يعشها أن مفاجأة الرد، هذه المرة، كانت متسقة مع التوقعات على صعيد اختيار الحل الأمني، إلا أن ما تجاوزها، وبمسافات كثيرة، كان صمود النظام على أصعدة أخرى ما كان لأحد أن يتنبأ بها أو يتوقعها عمليًا، لكنها كشفت في الحقيقة ــ ولا تزال تكشف ــ أحد أهم أسباب ديمومة هذا النظام طوال ما يقارب نصف القرن، وبرضى ما يسمى “المجتمع الدولي”.
عندما انفجرت الثورة في آذار/ مارس 2011 واستمرت خلال الأشهر التي تلته، لم يكن هناك أي أمير شيشاني أو تونسي أو أفغاني يقود مظاهرات السوريين شبه اليومية في معظم المدن السورية. ومع ذلك كتبت صحافية لبنانية عن “قندهار” في سورية، وأفتى شاعر ومثقف بـ”لا ثورية” الثورة ما دام المتظاهرون يخرجون من الجوامع! لكن قوات الأمن باللباس المدني كانت تطلق الرصاص على المتظاهرين من جهة وتعتقل منهم كلَّ من كانت تظنه من المحرضين عليها. ثم تطور الأمر بالتدريج، من رصاص البنادق إلى قصف المدافع إلى اجتياح الدبابات ومن بعد إلى الطائرات والبراميل. لم يكن القمع هو الهدف الوحيد، بل البرهنة على أن النظام ــ الذي أعلن على لسان رئيسه وإعلامه أنه هدف “مؤامرة كبرى”، بل و”مؤامرة كونية” تشارك فيها القوى الإقليمية والدولية التي تناهض سياسته في “الممانعة” وفي “المقاومة”.
إلى جانب هذا الرد الأمني والعسكري المباشر، كانت هناك حرب أخرى يخوضها النظام على صعيدين: حربي بواسطة جماعات أخرى هيأ إنشاءها، وسهل عملها حين أفرج عن كل الجهاديين الذين كانوا عملاءه في العراق لدى الغزو الأمريكي، متيحًا لهم تشكيل مختلف القوى التي تؤكد عنوان وصفة الحرب التي يخوضها على الصعيد الآخر وفي كل مكان من العالم: الصعيد الإعلامي: أي الحرب ضد الإرهاب، تاركًا للآخرين، في الغرب خصوصًا، توصيفه إسلاميًا.
كانت نتائج هاتيْن الحربيْن الموازيتيْن متعددة: إذ أن العالم لم يهتم بالتدفق التدريجي لعشرات الآلاف من المقاتلين، الذين جندتهم إيران من أفغانستان والعراق بوجه خاص، للقتال تحت إمرة حرسها الثوري، ولا بهرع وكيلها العسكري اللبناني، حزب الله، الذي جاء برجاله لحماية مقدسات لم يمسّها أحد بسوء خلال نيف وأربعمائة عام من خطر مجهول الشخصية والهوية، ونشرهم، باسم تحرير فلسطين، في أرجاء سورية بين دمشق وحلب وعلى طول الحدود اللبنانية السورية. بل اهتم بنُسَخِ القاعدة في سورية، جبهة النصرة أولًا ثم “داعش” خصوصًا. هكذا، تحقق للنظام ما أراد، حين صمتت الصحافة الغربية عن هذه الحشود التي جاءت لإنقاذ الأسد ولم يكن لديها ما تقوله إلا حول ما يخصّ الإرهاب الإسلامي.
ولسوف تتلقى بعض الدول الغربية شظايا مما يجري في سورية: ثلاث ضربات موجعة في فرنسا خصوصًا، بما أنها الوحيدة، من بين الدول الأوربية كافة، التي كانت تعلن رفضها للنظام الأسدي علنًا. وهنا -أيضًا- لن تجد فرنسا بدًا من أن تعلن للمرة الأولى أن الأولوية لديها لم تعد إسقاط النظام الأسدي بل القضاء على الإرهاب ممثلًا في “داعش”.
لكن إرهاب “داعش” وجبهة النصرة الذي ينفذانه داخل سورية كان يجري استثماره في الغرب على قدم وساق من قبل النظام الأسدي الذي وظف حشدًا من الوكالات الإعلامية واللوبيات اليمينية المتطرفة في المجتمعات الأوربية لهذا الغرض تحديدًا. وهكذا، بقدر ما كان إرهاب داعش ينصبُّ حممًا على الثائرين السوريين بوجه خاص، بقدر ما كان يُقدَّم إلى الغرب في إخراج هوليودي في صورة ممارسات منوعة لطقوس العنف أمام الكاميرا (من قطع الرؤوس إلى عرضها على الملأ في الشوارع، إلى رمي الجثث في هوة لا قرار لها، إلى حرق الناس أحياء..)، وباعتناء شديد في تحديد زوايا التصوير وفي اختيار الملابس والألوان. تلك فترة آتت أكلها حين نجح النظام في حمل الصحافة في الدول الغربية على وضع داعش وممارساتها مقابل ممارسات العنف التي يقوم بها النظام الأسدي، كي تأتي المقارنة بل والموازنة لصالح هذا الأخير مادامت وسائل القتل حديثة بالمقارنة من تلك المستخدمة من داعش، والأقرب إلى ممارسات العصور الوسطى. على أن ذروة الخبث في الاستثمار كانت تتجلى أخيرًا لا في تجاهل الصحافة الغربية المقارنة بين عدد ضحايا النظام الأسدي وضحايا داعش فحسب، بل في تركيزها على آثار إرهاب داعش الذي وصل إلى مدن فرنسا، في حين تبقى المجازر الأسدية اليومية محصورة ضمن الداخل السوري ولا تمسّ سواهم.
لم يقتصر استثمار النظام الأسدي للإرهاب الداعشي في الخارج من أجل إرغام الدول الداعية إلى إسقاط الأسد على النكوص والكف عن المطالبة بإسقاطه، والاهتمام بما يمسّها مباشرة، بل عمل أيضًا على إرغام السوريين على المقارنة بينه وبين سواه من مختلف الجماعات المقاتلة على الأرض التي أتاح لها فرص الوجود والنشاط والحركة، لاسيما وأنها لم ترفع راية الثورة ولم تعتمد شعاراتها رغم زعمها قتال النظام الأسدي.
كانت ممارسات هذه الجماعات في مختلف المناطق السورية تعيد إنتاج ممارسات النظام الأسدي بطريقة تبدو كما لو أنها تستهدف حمل الناس على تفضيل أهون الشرين. وقد تمثل ذلك في سجونها ومحاكمها ومختلف هيئاتها المنسوخة بواسطة آلة مهترئة عن تلك التي قامت قبل ألف وأربعمئة سنة وكانت حينذاك مُجَدِّدَة. لم يكن السوريون بحاجة إلى إدراك الخبث وراء تسهيل استقرار هذه الجماعات في مناطق سورية عديدة بوصفها “سلطات الأمر الواقع”. فلا هي مع الثورة وشعاراتها، ولا هي ضد النظام الأسدي بالمعنى الذي خرج السوريون من أجله قبل ست سنوات، ولا يمكن وسمها بالإسلامية، وإن زعمت هذا الانتماء من شدة جهلها بالإسلام ومفاهيمه، قديمها وحديثها. ويكفي مراقبة سلوكها اليومي، هي الأخرى، لنرى كيف أنها تعيد إنتاج آليات النظام الأٍسدي وسلوكه بغباء منقطع النظير.
خاض النظام الأسدي هذه الحروب متعددة الجبهات ضد الشعب السوري وثورته، معتمدًا على ومستفيدًا من خبرة نصف قرن في السياسة التي احتكر ممارستها، وكذلك في المناورة والاختراقات الأمنية في كل الميادين، تدعمه إيران بوصفها قوة إقليمية لا يستهان بها ولا يجهل أحد مطامحها، مثلما تدعمه، سياسيًا وعسكريًا، روسيا بوصفها قوة دولية تغطي أمام المنابر الدولية جرائمه وتزوده على الأرض بالسلاح والعتاد ثم تأتي للحيلولة دون سقوطه بطائراتها وجنودها وحفظًا لمصالحها.
لكن ما يؤسف له حقًا بعد هذه السنوات الست من الثورة السورية أن الردود في السياسة وفي المناورة كما في المواجهة التي قدمتها الهيئات والكيانات التي تصدت على التوالي لتمثيل ثورة الشعب السوري لم تكن على مستوى التحدي. بل وربما كانت في ضعفها وفي تشرذمها وفي ارتباك سياساتها وخططها عاملًا مساعدًا لكي يتمكن النظام الأسدي من تمديد أمد معركة المواجهة مع السوريين الثائرين وكسب رهانه في اعتماد الغرب أولوية الحرب على داعش قبل الحديث عن إسقاطه.
لا يمكن نسيان هذه الحقائق عند مستهل العام السابع من الثورة. عام إضافي في مسيرتهم المأساوية للتخلص من أعتى نظام عرفته سورية في تاريخها القديم والحديث، وللتحرر من الاستعمارين الجديدين معًا: الإيراني والروسي.