هموم ثقافية

الممثلون السوريون بين ريتشارد على ورق، وسفاح بينهم

يدرك الممثلون السوريون، أكثر من غيرهم، مدى ارتباط وتلاحم الشركات المنتجة للمسلسلات التلفزيونية التي يعملون فيها، بالأجهزة الأمنية التابعة لسلطة النظام البعثي، ولهذا كانت الأمور محسومة -بالنسبة إلى بعضهم- منذ البداية، فاختاروا معاداة الثورة ومناصرة النظام البعثي في نهجه الإجرامي.

ولكن أليس من المفترض أن يكون الفنان من أول المعارضين لسياسات الدموية والقمعية. إنطلاقًا من فرضية أنه يتمتع بوعي وحساسية يخولانه أكثر من غيره للتفاعل مع هموم وأحلام الناس؟ ألم تسهم قراءة الفنانين وثقافاتهم ومعارفهم التي عادة ما يزعمونها، بجعلهم كائنات أخلاقية قبل أي شيء آخر؟

أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا السياق، ولعل الإجابة عنها تتطلب معرفة الخلفية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي ترعرع فيها نجوم الفن في سورية.

المعطيات تشير إلى أن الغالبية العظمى من نجوم الوسط الفني، وربما قبل أشهر من سطوع نجوميتهم، كانوا يعانون من ضغوط نفسية واجتماعية ومادية، نظرًا إلى اختلاف إيقاع الحياة في المدينة عنه في المناطق التي وفدوا منها، إضافة إلى الضغوط المادية التي تفرضها الحياة المعيشة في المدينة.

ونظرًا إلى عادة الوساطة والرشوة والمحسوبية السائدة في جميع مرافق الحياة السورية، لم يجد الفنان الناشئ ما يؤخذ عليه، إذا ما أقدم على تنازلات وتضحيات مادية وأخلاقية وأمنية في سبيل دخول عالم التمثيل، وصعود سلم النجومية، فبريق الشهرة والثراء ظلت من أقوى الدوافع التي تدفعه أو تدفعها، للخوض في مجال فن التمثيل وبخاصة في فترة رواج الشركات المنتجة وتعدد الفرص، بينما يأتي الجانب الإنساني والفكري والمعرفي في المراحل الأخيرة، حتى ولو كان بعضهم قد  قرع أبواب فن التمثيل انطلاقًا من هذه القيم، فسرعان ما يجد هؤولاء أنفسهم وقد أزيحوا من الوسط الفني الذي غدى في ظل حكم النظام البعثي من أكثر الأوساط فسادًا وزيفًا وتأمرًا، لكون الشللية وظاهرة التنافس والصراع على الأدوار وعلى الأجر المادي، والتهافت على تمتين العلاقة مع المخرجين والمنتجين وضباط الأمن، هي الصفة الغالبة عليه، وهي المسيطرة على مرافقه كافة. ومن يجد لديه موهبة التكيف مع مثل هذه الاجواء، بغض النظر عن موهبة التمثيل لديه، سيغدو نجمًا مرموقًا في زمن قياسي، مشفوعًا بعروض وعقود مادية، محاطًا بالمعجبين والمعجبات أينما حل، ومن لا يتمتع بمثل هذه الموهبة يُعزل تلقائيًا؛ حتى لو كان يتمتع بموهبة عباقرة فن التمثيل.

وعليه؛ فإن من يصبح نجمًا يجب عليه تلقائيًا رد الدين الذي في عنقه لسلطة البعث، فيغدو لسان حالها وسفيرها. متحدثًا باسمها عبر المنابر الثقافية والفنية والسياسية، مذكرًا بين الحين والأخر، بعطاءات القائد وصمود القائد وابتكار القائد لمعجزات أمن البلد وخيرات البلد ونعيم البلد، والتي لولا القائد لربما ما كان هناك من بلد في الأصل.

ولعل كل هذا يفسر مواقفهم المعادية للثورة منذ انطلاقتها، ودعمهم للنظام الفاشي الذي كبروا وترعرعوا على يديه، ولعل هذا -أيضًا- ما جعلهم لا يرون في الثورة، إلا أنها ريح عاصفة ستطيح بهم وبزيفهم وبالسلطة التي أوصلتهم إلى الشهرة والثراء، فما كان أمامهم إلا أن يقامروا بدماء جمهورهم لشراء رضى السلطة ورد الدين لها.

كان يفترض من نجوم فن التمثيل في سورية أن يلعبوا دورًا محركًا للثورة، أو على أقل تقدير، أن يكونوا مؤيدين لها، لكننا نرى القسم الأعظم منهم وقد اتخذ مواقف معادية للثورة، انطلاقًا من كونهم أبناء هذا النظام الفاسد، فسارعوا إلى الإعلان عن مواقفهم، وتوصيف الثورة بالمؤامرة، والثوار بالمتآمرين والإرهابيين، وذلك لإحباط إرادة وعزيمة الثوار إذا ما رأوا نجومهم المفترضين يتخذون مثل هذه المواقف المخيبة للآمال، بانحيازهم للنهج الدموي. كان يمكن لنجوم المسرح والتلفزيون في حال اتخذوا مواقف مغايرة عن المواقف المخجلة التي تبنوها، أن يحدثوا نقلة نوعية في مجريات أحداث الثورة، وأن ينقلوا صورتها للعالم الخارجي نقلًا أفضل وأوضح، لكنهم تخلوا عن مهمتهم الاساسية عندما استدعتهم الضرورة، واكتفوا بكونهم أنبياء وأبطال وثوار على الورق وعلى خشبات المسرح وخلف الكاميرات، بينما خذلوا جمهورهم في أرض الواقع.

وهنا لنا أن نسأل أمثال هؤلاء: أين هي نصوص المسرح التراجيدي التي كنتم تؤولونها وتحللونها وتثرثرون بها ليلًا نهارًا، إلى حد أن مأساة الملك لير على سبيل المثال، كانت قد أرّقت نومكم لليال طوال، وأنتم تستعدون لإخراجها أو تمثيلها أو تحليلها، بينما نمتم هانئين وسكتم عن المذابح والمآسي التي يتعرض لها الأطفال والرجال والنساء في الشوارع والأحياء، وعلى مرأى من أبصاركم، تلك المذابح التي لو أبصرها شكسبير لربما صاغ منها مأساة تفوق مأساة لير هولًا ورعبًا؟

ألستم أنتم الذين لم يتركوا فرصة أو مناسبة إلا وتحدثوا فيها عن دموية رتشارد الثالث، بينما ها أنتم ساكتون عن رتشارد حقيقي قابع بينكم، توظفون كل تحليلاتكم ومواهب الثرثرة لديكم، لتمجيده خلف الكاميرات وعلى أرض الواقع.

أم لعلكم لستم إلا كائنات ورقية لا تحن وتتفاعل إلا على الضحايا المصنوعة من ورق؟

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق