مقالات الرأي

الثورة السورية… ما العمل؟

الحوادث الإرهابية التي ضربت دمشق في الذكرى السادسة للثورة السورية، الانسداد السياسي والعسكري الذي تقف أمامه الأطراف السورية كافة، عدم وجود إرادة دولية لحل المسألة السورية التي تحولت إلى “سوق استثمار” يكشف مدى عفن ولا أخلاق عالم “الحداثة”، و”ما بعد الحداثة” الذي نعيش فيه، هذا العالم الذي يفرّق بين موت وموت، بين جثة وجثة، بين قتل بالطائرات بحجة الإرهاب، وقتل في السجون والمعتقلات، بين قتل على يد داعش يجد موقعه المتقدم في نشرات الأخبار، وقتل “أقل وطأة” (من وجهة نظرهم) يحدث على يد ميليشيات محلية وإقليمية وتحالفات دولية، تقدم نفسها تحت مسميات كثيرة، فيما الإجرام صفتها الوحيدة.. هذه حوادث قليلة من كثير يمكن سرده، كثير يدل على حجم المأزق الذي تقف فيه الثورة السورية اليوم، فهي تكاد تكون في منعطف حاد، يوجب وعيًا كبيرًا وآليات جديدة تنتج عن قراءة جديدة وعميقة لما يجري، إذ لم تعد الآليات القديمة مجدية، إن أردنا التخفيف من وعورة الطريق المقبل، الأمر الذي يجعل من سؤال: ما العمل؟ راهنًا وحاضرًا، دائمًا وفي كل لحظة، ويجب أن يبقى قائمًا، لأنه يختزن في طياته احتمال النقد والمراجعة، وهو ما نحتاجه في كل وقت، فما يجري حولنا تتسارع أحداثه إلى درجة عدم القدرة على التحليل والخروج بمعطيات واضحة، وهذه التحولات ليست سورية فحسب، فنحن اليوم أمام تحولات عالمية وإقليمية ومحلية، تتداخل في ما بينها تداخلًا معقدًا ومكثفًا، ابتداءً من المستوى الدولي؛ حيث تدعو موسكو وتسعى إلى عالم “ما بعد الغرب”، في لحظة عجز النظام الدولي، دون أن يتوافر بديل منه بعد، فيما يتضعضع النظام الإقليمي كليًا في انتظار نهايات “الحروب المتنقلة” في المنطقة؛ كي يشكّل المنتصرون النظام الجديد بشروطهم الجديدة، فيما الساحة المحلية السورية تراوح في مكانها، في استنزاف بات يميل لمصلحة النظام عسكريًا (وهذا أمر يمكن أن يكون موقتًا، وحتى لو انتصر كليًا، فهذا لا يعني نهاية المقاومة التي يمكن أن تتخذ أشكالًا متعددة) دون أن يميل إليه سياسيًا؛ ما يعني أننا أمام إمكانيات وبنى مفتوحة وليست مغلقة، على الرغم من كل قتامة اللوحة، ويبقى الفعل والعمل والقراءة الصحيحة لما يجري، واتخاذ موقف واضح وصحيح لمصلحة القضية السورية، هو ما يمكن أن يشكل عاصمًا من السقوط، فعدالة القضية ليست عنصرًا كافيا للانتصار ولا النيات الحسنة.

أول الأمور التي على السوريين معرفتها، ومقاربة الأمور من خلالها، هو معيار الزمن وقراءته قراءة صحيحة، إذ يبدو أن ثقافة الاستبداد المشوّهة التي تربينا في أتونها، واستسهال قراءة الثورات في مصر وتونس وليبيا، من حيث اختصارها برحيل الرؤساء/ الدكتاتوريين، أوهمت قطاعًا كبيرًا من السوريين بضرورة إسقاط النظام الآن وهنا، وإن لم يسقط، نركن إلى اليأس والقنوط، وإن لم يرحل الأسد؛ فهذا يعني أنه لن يتغير شيء أبدًا. هذا أول الأوهام التي علينا مغادرتها، ولم تزل تتكرر منذ ست سنوات، فقد يرحل الأسد خلال العملية الانتقالية أو خلال التسوية المقبلة وقد لا يرحل، فهل إذا رحل يعني أننا حققنا الانتصار، وإذا لم يرحل هزمنا؟

أبدًا، حتى لو رحل، فالنضال لا ينتهي أو يتوقف، لأننا إزاء منظومة قمعية أساسًا، ومدعومة إقليميًا ودوليًا، وتحتاج جهدًا طويلًا من العمل والنضال لتفكيكها، ولعل تجارب مصر واليمن وليبيا تدل على ذلك، إذ رحل الرؤساء فيما بقيت النظم بكامل عدّة قمعها وعنفها (مصر) وأخذها البلاد نحو الحروب الأهلية (اليمن وليبيا)، الأمر الذي يحتم علينا الإقلاع عن توّهم الانتصارات السريعة، والتركيز على مشروع التغيير الشامل الذي يعمل ببطء النمل ليراكم بعد زمن، فمعركتنا طويلة وتحتاج تراكما مثمرًا، خاصة أننا نرزح اليوم تحت استحقاقات تأجلت كثيرًا، فتحت ذريعة إسقاط النظام أولًا التي هيمنت على وعينا طويلًا، بتنا اليوم فيمواجهة استبدادات متعددة، تبدأ من محاولات الفصائل العسكرية الهيمنة، ولا تنتهي عند مشروعات إرهابية مثل داعش والنصرة أو مشروعات إسلاموية، ما يحتم علينا اليوم مواجهتها كلها وبوعي، ودون تأجيل معركة دون أخرى، إلا وفق مبدأ التكتيك الذي يفضل مرحليًا معركة على أخرى، دون أن ينسى الخطر الآخر أو يتركه يتمدد، ودون أن ننساق وراء ردات الفعل السيئة تحت اسم النضال، فالمقاومات في لحظة ما تتحول إرهابًا إن لم تدرك كيف تضبط نفسها في لحظات الغضب واليأس والخذلان، وهذا ما يسعى النظام وحلفاؤه إلى إيصال الجميع إليه، ولنا في المقاومة العراقية في محاربة المحتل الأميركي، وبعده الإيراني مثالًا، فحين لم تتمكن من فرز نفسها عن القاعدة ولدت داعش اليوم، ونأمل ألا تكون تفجيرات دمشق وغيرها من العمليات التي تقتل كثيرًا من المدنيين؛ بحجة ضرب النظام في معاقله، إحدى هذه الكوارث، كم نأمل أن يكون النظام فعلًا هو الفاعل لا قوى تستغل الثورة لوسمها بالإرهاب، لأن ما جرى هو إرهاب حاف.

هنا -أيضا- يجب الانتباه إلى أنّ المقاومة ليست ذات بعد واحد، فقد تهزم عسكريًا، وتتابع النضال سياسيا، وقد تنتصر عسكريًا وتهزم سياسيا، فالعامل العسكري ليس كل شيء وليس هو الحاسم، فالنضال يتخذ شكله وفقًا للممكن في لحظة ما، وهنا على السوريين أن يعيدوا العمل من جديد بآليات تفعيل العمل السياسي والمدني من جديد، والاستثمار في المجتمع المدني الذي نشأ وتجذر خلال السنوات الماضية، فالوعي والخبرات هي الرأسمال الذي لا تهزمه حرب ولا قوى دولية، فحين تدرك الناس حقوقها ستبقى تناضل لأجلها، وهنا علينا اجتراح أدوات النضال الملائمة لكل فترة، وأعتقد أن النضال والمقاومة في المرحلة اللاحقة سيتخذ شكل النضال السياسي والمدني الذي علينا أن نعد أنفسنا له دون أن نضطر إلى هجر البندقية كليًا أيضًا، فهي في خدمة الهدف، وليست ضده أو ليست هي الهدف والمقاومة الوحيدة.

وهنا قد يكون من المفيد الحديث عن وجود ضعف واضح لدى السوريين في العمل الجماعي والمنظم، إذ بعد ست سنوات من الثورة نجد كثيرًا من الطاقات الفردية المبدعة وفي المجالات كافة، إلا أننا نجد ضعفًا في العمل المؤسساتي والجماعي، وهذا في أحد وجوهه أمر مرتبط بمسألة الزمن التي تحدثنا عنها سابقًا، فالعمل المنظم والجماعي يحتاج وقتًا طويلًا حتى يثمر وينتج، بما يعني من ضرورة التحلي بالصبر والإيمان بضرورة النضال على المدى الطويل ليتراكم الجهد ويحقق إنجازاته الجمعية.

ثاني الأمور التي علينا العمل فيها، هو السعي لاستقلالية القرار السوري، ليس داخليا فحسب، بل عبر العلاقة مع من يقدمون أنفسهم بوصفهم “أصدقاء الثورة السورية”، إذ حتى لو كان هؤلاء يقدمون المال والسلاح، فإن طريقهم مختلف كليًا عن طريق الثورة، بل يكاد لا يتقاطع معه نهائيًا، بل كانوا في لحظة ما عصوات في دواليبها، لأن آخر ما تريده هذه الدول القائمة على أنظمة مستبدة تحكم شعوبها بالنار والحديد هو أن ترى الديمقراطية تتمدد في المنطقة كافة، لهذا؛ هي تدعم الخط الجهادي والإسلاموي في الثورة فحسب، فالصراع بالنسبة إليها صراع طائفي/ قومي مع إيران، وكلما كانت الصراعات دينية ودموية وذات بعد سيئ كلّما عامت هذه الأنظمة على بحار الدم، فمن يقتل شعبه ويمنع عنه الحرية لن يعطيك حريتك أو يسمح لك بامتلاكها، الأمر الذي يعني أن هؤلاء يشكلون الثورة المضادة ضد الثورة، ويوجب العمل الحثيث في بناء استراتيجية جديدة للاستقلال عنهم وبناء خط وطني يوظف حاجة هؤلاء لضرب إيران وروسيا في سورية دون أن يرهن القرار السوري لهم، ويسمح بتحويل الحل النهائي إلى “طائف جديد” فحسب.

ثالث الأمور أن فشل جنيف وعودة الحديث عن مناطق آمنة والتعاون الروسي الأميركي مع حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية، والإعلان عن الوجود العسكري الأميركي في سورية واحتمال بقائه لسنوات خمس مقبلة كما صرح الجنرال جوزيف فوتل، وعودة العلاقات السعودية- الأميركية إلى سابق عهدها، وبدء العمل لمواجهة إيران، ودخول العلاقات الروسية- الأميركية في مرحلة جديدة بعد انفجار قصة التدخل الروسي في الانتخابات في وجه ترامب.. هذه كلها معطيات تؤكد أنّ ما يحدث في سورية لم يصل مستقره النهائي بعد، وأنّ هذا الواقع قابل للتحوّل من جديد، شرط القدرة على العمل على تغييره وفهم آليات اللعبة وقدرات اللاعبين المحليين والدوليين، فهل من يعمل في هذا الأمر؟

مقالات ذات صلة

إغلاق