أدب وفنون

اللـه وبطش الحرب

في الموت، يمسك الإرهابيّ طائر الكاتيوشا، حزامه النّاسف، يتلف الرّؤوس والأجساد، يمزّق الأكباد، يفقس العيون ويرحل.

يقول شيخه، العنكبوت، أصفر اللون الضّحوك: شكرًا؛ لأنّك ابن اللّه. يقول الكولونياليّ، ملك البورصات: شكرًا؛ لأنّك ستحتاج رصاصًا جديدًا. تقول الضحيّة: أنا الآن بلا رأس، عدم في خواء العدم، ينتظرني المستطيل ودمع أمّي.

في الموت، يمسك تاجر السلاح بالطّائرات، يرسلها سربًا باسم الحياة، تحصد قطيعًا من أولئك الإرهابيين، تعجنهم كعلب السردين.

يقول مفكّر يساريّ، حداثيٌ حدّ التخمّر: ذلك هو الردّ الملائم، فليبحثوا الآن عن الحوريات، وعن ربّهم الغائب.

يقول إعلاميّ: شكرًا؛ فجريدتي كادت أن تفلس، ها هنا حصاد ليبراليّ، فمجّدوا، مجّدوا معي تاجر السلاح. يقول هامشيّ في الصّدى الافتراضيّ، نعم، فهم طيور الظلام.

تقول الضحيّة، الإرهابي: أنا الآن أغمى، ويغمى عليّ نهائيًّا، لم أكن قاتلًا لو لم أشعر بانقراض ذاتيّ، طحنتني الدول الحديثة، فكنت طريدة سهلة في شبكة الخرافة.

في الموت، نتّفق –ضرورة- على الموت جميعًا، ولا نتّفق أبدًا، رحاها عليهم وعلى الذين ضدّهم، تمسك في جدائلها رؤوس الأطفال مثل أقراط الغانيات، وعن الهوّية لا تسأل، لكن في الجشع تتصادم.

يقول تاجر السلاح للكولونيالي: قتلت إرهابييك جميعًا، بروليتاريا السلاح في مصانعك المعدّة للفتك والرّزايا، لم تترك لي نصيبي من الأسواق.

يقول الكولونيالي لتاجر السّلاح: أنت أيضًا كولونياليّ، ومصانعك فتك مضادّ، منّي فتنة الهوّية، ومنك وجهي الحداثيّ.

يقول كلّ منهما للآخر، بعد قرع الكأس بالكأس: أجل؛ نحن الإرهابيين، لا شريك لنا أبدًا.

ويتّفقان على توحّش أكثر، على خراب أكثر، على رؤوس وضحايا ورائحة شواء جديدة؛ كي يتعطّر سحاب ممطر في الأفق برائحة الدم. لم يحن الوقت الملائم -بعدُ- لإيقاف هذا الضباب الأحمر، ولكن لا بأس، عهدنا ووعدنا سيكونان في جفنة مليئة بأمعاء القتلى، وغدا نشرب كأسًا أخرى.

هكذا يكتمل حوارهما، بمزيج من الضّحك الهستيريّ، الآثم، بينما صوت المآذن يعلو، وصوت البنادق يزداد، والدمع هو الدم في جثث القتلى والأموات.

يقول نادل الحانات: هنا لم يعد لي حرفاء قطّ، صار حليب الحرام باهض الثمن، وهم أدنى من ذلك، جيوبهم صارت مليئة بحبّات الأسبرين، وبعض الرصاص.
يقول كاهن المساجد: أنا -أيضًا- لم أعد أرى من يطوف بكعبة الله، صار السفر إليها أبعد من ايقاف الحروب في العالم كلّه، وكلّ الذين كانوا يعتزمون المجيء، قرّورا الطواف بالأمل، أسقطتهم الحرب في القبور.

يقول من كانت تأخذه غواية الجنون: هنا كنت أشرب دمع العنب ودم المستحيل، هنا كنت أكتب القصائد، أرسم خرائط العالم، أعربد كالمحارب، أنا الآن جريح انفجار الأمس.

يقول من كانت تأخذه غواية المتصوفين: سأترك الصلاة، أعلم أنّه حتّى السجّادة ستصير أغلى من رقعة أرض على كوكب المرّيخ، هناك كنت أريد أن أرى الربّ، أن أحدّثه كثيرًا عن أشياء في قلبي، عن طفل ذبحته شظية من قدميه.

يتحالف نادل الحانات مع كاهن المساجد، الحريف الأوّل مع عدوّه الحريف الثاني، أمّا عن قنبلة الغضب الباردة برودة دول تسيل فيها أنهار الدم، فلا تسأل بعدُ ماذا ستقول.

من بعيد ذلك الأفق، يأتي الصدى، ووجه الله الغابر، يقدّم بعض الأدوية وبقايا طعام يابس للجرحى، يسحب من جرابه قطع الحلوى، يوزّعها على أطفال المخيّم، ثمّ يعلو صوته المبحوح في وجه آخر الثوّار، في وجه آخر الأنبياء:

احذروا أولئك القتلة، لصوص الثورات؛ عويلهم الدائم، نباحهم السافر، عجينهم الفاسد، لؤمهم المرضي، حقدهم الحار، طينتهم المتصدعة، وجوههم الشاحبة، دماءهم الباردة، أقلامهم المأجورة: بعضهم لا تصيبه الثورية إلا ليقصم ظهر هذا مقابل ما يدفعه الآخر، وابحث لك وللوطن عن سبيل! وبعضهم تصيبه الدهشة؛ فيكون ضبعًا، ويهب حبره لرجال الأعمال ووزارة الإرهاب، ولا تتعجل طرح السؤال حول سيكولوجيتهم الهشّة، فهناك من لا يقدر أن يحيا من دون أن يكون له جلاد، فيتلذذ عميقًا بعبوديته! وبعضهم يئس من العالم، ومن إمكانية حدوث ثورات تعيد للإنسان صفاءه، فقرر الذهاب بالخراب إلى أقصاه، ولا تبحث عن الحقيقة، فدمها تفرّق بين الجرائد!

وبعضهم سحرته شمبانيا اللصوص، فقرر أن يكون مثلهم، ووقف كثيرًا أمام الوزارات، يبيع قلمه لرجال الأمن وعصابات التقتيل والترويع، ولا تسأل عن الأيديولوجيا، فتزييفها أمر ممكن!

وبعضهم ادعى التقدمية، فانطلت عليه حيلة الحداثيين، ليجد نفسه أوّل الواقفين في ساحات الرفض ضدّ رجعية الإسلاميين، متهمًا إياهم بصناعة الإرهاب، ملحقًا بهم تهمة الرجعية، ومبرّئًا، في الوقت نفسه، أولئك الليبراليين ووزارة الجيش وعصابات الداخلية، فإذا بعالمه أكثر حلكة من الظلاميين أنفسهم، ولا تسأل عن الحداثة، فالتقدميون لعبوا -أيضًا- أوراق اليناصيب، ورسموا فوقها صور شهدائهم، وتاجروا بأسمائهم، وصلبوا الحداثة على حديد الثابت والأزمنة المجردة!

هناك ضرب من التسابق نحو الجلاد، حين تصبح اللغة سلاحًا، تمدح أو تهجو، وحين تصبح الصورة أقراصًا من الأفيون والتضليل، ببساطة، يكون من الممكن جدًا أن يصبح الشيطان أجمل من النبيّ، ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف، ويصبح رجل الأمن قدّيسًا، ورجل السياسة ثوريًا حدّ التصوف، بينما يصبح الشهيد جيفة فحسب، لكلب تلقى صورته في محافل الكرنفالات السياسية والانتخابية.

وإني أعرف: الثورة أن تحترق بالحبّ؛ حتّى آخر العظم، وتنهض.

مقالات ذات صلة

إغلاق