في العام السادس؛ هل عليّ الاعتراف بالهزيمة، أم من حقي أن أرفض الاستسلام؟
يقف السوريون وحدهم يواجهون الكارثة الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، لم يعد من الملفت للمجتمع الدولي التذكير بالضحايا، والمعتقلين، والمهجرين، والنازحين الذين فاقت أعدادهم الملايين، وربما صار الحديث عن دمار أكثر من 60 في المئة من البنى التحتية في سورية خبرًا من الماضي، الصراع الذي التهم مقدرات البلد، باتت أخباره تعكر مزاج الإنسانية الحالمة بغد أجمل، الإنسانية ذاتها التي تغرق في دماء السوريين، وفي دماء غيرهم من الشعوب المقهورة!
أي أمل نرجوه، وأي طريق نتلمسه يخرجنا من هذه الفاجعة، في ظل كل هذا اليأس والإحباط!
ست سنوات لم تتوقف فيها آلة الموت يومًا واحدًا، حتى في تلك الأيام التي خُدعنا فيها بالهدن واتفاقات وقف إطلاق النار، كان دائمًا هناك من السوريين من يستثنيه الطاغية من التزاماته، وأحيانًا كثيرة ظل عداد الموت يعمل دون توقف، في السر أكثر منه في العلن.
في العام السادس من واجبنا -ربما- الإجابة عن تساؤلات غدت محقة، هل من مزيد، أم يكفينا ما حل بنا؟
الحقيقة أن من المضحك، بل من السخافة، التفكير -فحسب- برسم صورة وردية. وفي المقابل، يبدو غبيًا جدًا الوصول إلى نتيجة مسبّقة دون بيان أسبابها، في جميع الأحوال؛ لا بد للإجابة -في هذه المرة- من أن تكون صادقة، موضوعية، واقعية قدر الإمكان، لا يؤثر فيها خوف أو كراهية.
وبما أن السؤال -اليوم- موجهٌ إلى الشعب الثائر، وإلى المعارضة قبل أي طرف آخر، فإنه من غير المجدي لنا البحث في أسباب استمرار الطاغية الذي يبدو قابضًا على سورية، مع ذلك؛ هذا لا يمنع من الإشارة إلى أنه على الرغم من تعدد أسباب تفوقه حتى الآن، بتوفر الدعم اللازم في جميع المجالات؛ لاستمراره على قيد الحياة سياسيًا، في أوضاع دولية مواتية لحلفائه، ويمكن عدّها أوضاعًا استثنائية في فترة تحول دولي، إلا أن ذلك لن يُغيّر من حقيقة أن النظام بات واجهة كرتونية فحسب، قابلة للسقوط في أي لحظة تتغير فيها موازين اللعبة الدولية، فقد اضطره الثمن الباهظ للبقاء في السلطة من أن يتحول من لاعب لديه من التأثير ما يكفي ليحفظ له وجوده، إلى ورقة في أيدي لاعبين آخرين، يمكن التخلي عنها في مقابل صفقة أو مصلحة ما.
في سياق البحث عن إجابة للسؤال الذي وجهناه، لا بد من التأكيد -بالخط العريض- أنه لا يمكن للسوريين بناء مشروعهم الوطني على احتمال تغيير الموازيين الدولية، هذه الحقيقة التي غابت عن المعارضة السورية، كانت من أبرز أسباب فشلها، فعلى الرغم من وقاحة ذريعة المجتمع الدولي بعدم وجود بديل، إلا أنه لا بد من الاعتراف بأن المعارضة قد فشلت فعلًا في بناء البديل خلال كل هذه السنوات، لا بل إنها بدلًا من التقدم والتعلم من التجربة ومراكمة الخبرة، فقد تراجعت كثيرًا في الخطوات اللازم اتباعها للوصول إلى البديل الوطني القادر على إنقاذ البلد والخروج به من دائرة العنف، ومن سيطرة الطغمة الحاكمة ومن التدخلات الدولية.
ولأن الاعتراف بالفشل لا يكفي لمواجهة الكارثة، فلا بد من الاعتراف بالهزيمة، والهزيمة التي نطرحها -هنا- ليست بالهزيمة العسكرية المادية، ففي الحروب يخسر الجميع؛ حتى المنتصرون غالبًا ما يدفعون أثمانًا غالية لقاء انتصاراتهم، ولكن ما يجب الاعتراف به هو الهزيمة الفكرية المعنوية، فهنا دائما تستقر فكرة النصر، ونقيضها فكرة الهزيمة.
لا شك في أن نظامًا لا تحكمه أي قيمة إنسانية هو نظام مهزوم فكريًا منذ الصرخة الأولى، ولا شك في أن هزيمته حاضرة، مهما طال الزمن، فليس هناك من نصر بدون قيمة تستحق هذا النصر، لكن يبقى السؤال كيف لي أن أنتصر؟
في السنة السادسة بعد الثورة، لا يجد كثير من السوريين فروقًا كبيرة بين الطغمة التي انتفضوا ضدها والطُّغَم التي ملأت فراغ السلطة في الأرض السورية، وعلى نقيض الآمال، فبدلًا من أن ينال السوريون، ممن خرجوا من قبضة الأسد، مزيدًا من الحرية التي تعوضهم فقدان الأمن، وتكون ذخيرتهم في مواجهة إجرام طائرات ودبابات النظام بحقهم، فقد تضاءلت مساحة حريتهم؛ حتى تكاد تتلاشى، ليقعوا مجددًا في قبضة استبداد عقائدي بعناوين الدين والله. أيُّ حظ عاثر هذا الذي يلاحق السوريين! فما كاد بعضهم يتخلص من حكم الديكتاتورية؛ حتى سقط تحت حكم ديكتاتوريات أخَر! ولكن هل في القضية حظ فعلًا، أم إنه أمر دُبّر في ليل؟ لا شك في أن الحظ موجود دائمًا، لكن دوره أقل من أن يصنع هزيمة، أما كيف دُبّر هذا الأمر في ليل، فلا يمكن لهذه المقالة أن تجيب عنه.
في الأمس وغدًا وفي كل يوم، لا فرق بين من يتحالف مع الأجنبي؛ ليظل حاكمًا، وبين من يتحالف مع الأجنبي ليسقط حاكمًا، إلا بقدر تمسكه بقراره وكرامة وطنه، وبقدر شجاعته لأن يقول: لا لمصلحة الأجنبي عندما تتعارض مع مصلحة الوطن، وعندما تكون على حساب دماء أبناء الوطن، أيًا كان دين هذه الدماء أو قوميتها.
الهزيمة، عندما نبقى متقوقعين في قوالب فكرية جامدة، عاجزين عن نقدها والخروج منها، أو حتى تعديلها وملائمتها للشرط الوطني، على الرغم من كل ما جرّته علينا هذه القوالب من انكسارات وعداوات، والهزيمة في أن نصمت ونعجز عن الوقوف في وجه أخطاء من يشبهوننا في انتماءاتنا الثقافية والعرقية، وعندما لا يجد أحدنا الحرج في تسويغ ما لا يسوَّغ أخلاقيًا، الهزيمة تقع عندما تتنازل الثورة عن قيمها. هنا في هذه اللحظة، أعترف بهزيمتي عندما لا أجد من قيمة تحفظ إنسانيتي في هذا الصراع.
إذن؛ هل من حقي أن أرفض الاستسلام؟ تبدو الإجابة -هنا- أسهل؛ إذ إن كبرياءنا هي ما سيتولى الإجابة -فورً- بالقول: “نعم من حقي أن أرفض الاستسلام”، لكن ليس هذا ما نبحث عنه، إذ كي تكون الإجابة صادقة، لا بد من أن تكون موضوعية، وطالما تولت الكبرياء الإجابة، فإن الإجابة حملت كثيرًا من الشك. موضوعيًا نحن أمام ثلاث قضايا، يقتضي التفكير بها عميقًا؛ ليكتمل الجواب عن هذا الشق من السؤال، وهي قضايا الحق والمستقبل والحرية.
الحق مرتبط بالضحايا والمتضررين، وبالخسائر وإمكانية البحث عن السبيل؛ لنيل بعض من التعويض المعنوي الذي يضمن لنا الحد الأدنى من راحة الضمير تجاه من ضحوا لأجلنا.
المستقبل مرتبط بالنظام، وبمدى القدرة على التعايش معه، ومع تحمل انتقامه الوحشي منا جميعًا، ومع فكرة ما ينتظر أولادنا من ذل وقهر، وفي النهاية مع ما ينتظرنا من تخلف وانحطاط أخلاقي، في مجتمع تتحكم به مجموعة من اللصوص، أو مع النقيض لكل هذا.
الحرية وهي مرتبطة بكل واحد منا، وبقراره وبحقه الشخصي في أن يعلن، أو لا يعلن، استسلامه، في أن يتابع الطريق حتى النهاية التي يؤمن بها، أو في أن يقف مكتفيًا بما ناله من خسارة. سيقول بعضهم يكفي، وسيقول آخرون لم يعد هناك ما نخشى خسارته، في النهاية؛ لا يمكن لأي منا أن يفرض رأيه، صحيح أن أوضاع من يعيش تحت القصف والحصار ليست كأوضاع ذلك الذي يعيش في خيمة على الحدود، وتختلف عن وضع ذاك الذي وصل إلى أوروبا، أو من لم يزل يتابع حياته في كنف النظام في بيته ومع عائلته، لكن سيظل لكل منا قراره.
في النهاية، إذا كان لا بد لنا من الاستمرار في النضال من أجل الحرية والكرامة والعدالة، فإنه من الواجب التوقف؛ لمراجعة ليس الطريق فحسب، وإنما فهمنا للقيم بحد ذاته، ومن أن نقيض الاستبداد هو الـ “لا استبداد”، ومن أن نقيض الحرية هو الـ “لا حرية”.