ربما لا نريد أن نصدق أن ست سنوات قد مرت من عمر الثورة السورية، بل إن كثيرين لا يريدون أن يتخيلوا أن هذه الأحداث كلها تقع هناك في سورية، البلد الذي كان مغلقًا بإحكام -في ما مضى- على أي إمكان للتغيير والتعبير، وكان عصيًا على وسائل الإعلام، فكان يوصف بالسجن الحصين أو بالمملكة الأسدية، لكنه الآن بات مفتوحًا على كل الاحتمالات، ولا يمكن وضع تصور نهائي عما ستصل إليه أموره، ما دام اللاعبون في ملفاته كثرًا، وبينهم صراعات مصالح، تسهم كل يوم في تعطيل يوم الخلاص الذي ينتظره ما تبقى من السوريين بفارغ الصبر.
ولعل السنة السادسة كانت أسوأ تلك السنوات، فقد مرت دامية ثقيلة على المدنيين عمومًا، وعلى جسد الثورة خاصة، فصار هزيلًا، ولا يكاد يقوى على الوقوف في وجه جميع القوى التي دخلت المشهد السوري بقوة، وصارت جزءًا أصيلًا فيه، بدءًا من التحالف الثلاثي الروسي الإيراني ويكمله نظام دمشق ومن معه من قطعان الميليشيات الطائفية، مرورًا بتنظيم “داعش”، وسواه من التنظيمات المتطرفة، وصولًا إلى التدخل التركي المباشر عسكريًا، وأعقبه تدخل أميركي، وكل هذه القوى على الأرض تبحث كما بات واضحًا عن غنائم خاصة بها، ولا يعنيها في شيء أمر الشعب السوري الذي تستعمله جميعها تقريبًا ذريعة، تارة بحجة حمايته، وتارة بحجة حماية “دولته” التي تفككت، وباتت دويلات، قد تنتظر عقودًا قبل أن تلتئم جراحها لتلمّ شمل بعضها إلى بعض من جديد.
ذلك كله يحدث بينما يواصل نظام دمشق، الذي كان بقاؤه، جالسًا على كرسيه، سببًا رئيسًا في كل ما حدث وما سيحدث لاحقًا، عزفَ أسطوانته السخيفة عن السيادة واللحمة الوطنيتين اللتين لم يبق منهما شيء يذكر. وإن بدا في المشهد ما زال ممسكًا بعصا السلطة الغليظة، إلا أنه يدرك قبل أي أحد آخر أنها سلطة وهمية واهية، فالأسد، كما تنظر إليه حليفته طهران، جندي في جيش مرشدها الأعلى فحسب، وفق تصريحات كبار قادتها ومسؤوليها، وأما موسكو فتعامله بوصفه موظفًا برتبة أقل من رتبة وزير، وكلاهما موسكو وطهران، تستخدمه ورقة من بين أوراق كثيرة، كفيلة بتحقيق مشروعيهما اللذين وإن بدوا متفقين إلا أنهما في الحقيقة مشروعان متعارضان، ولن نلبث طويلًا حتى نتابع الخلاف بينهما، وخاصة أن الولايات المتحدة وضعت سورية على قائمة أهدافها، وتريد من خلالها أن تستعيد دورها قوة أولى في هذه المنطقة من العالم.
لا نريد أن نستغرق كثيرًا في تشخيص المشهد الخارجي، فهو واضح للجميع، وأما داخليًا فيمكن أن نلحظ أن تلك الـ “سورية” هي الآن ثلاث أو أربع دويلات، بينها خطوط تماس مشتعلة، وتدور رحى حروب وصراعات لا تكاد تتوقف يومًا، على الرغم مما يقال إنها “هدنٌ” تُعلّن بين الحين والآخر، إلا أن تلك الهدن تظل حبرًا على ورق، ولم ير نتائجها المدنيون القابعون تحت لعنة البراميل المتفجرة، والصواريخ الفراغية، وأنواع مختلفة من القنابل المحللة و المحرمة دوليًا، ويتناوب على إلقائها كافة المحتلون كافة، من أصدقاء الشعب السوري وأعدائه، على حد سواء. أو يجلس السوريون في مدنهم خائفين بانتظار تلك الأجساد المتفجرة التي تستطيع اقتحام الحواجز وقتل العشرات في كل مرة، دون أن ننسى سكاكين تنظيم (داعش) التي تحزّ الرقاب، بتهمة الردة عن الدين، أو الانتماء إلى الثورة، فالتهمتان عند التنظيم الإرهابي واحدة.
ما يميز هذه السنة الثقيلة هو أن مساحة الثورة تقلصت، بدأت تضمر، ولم تعد مدنها الصامدة موجودة على خارطتها، جرى ابتلاعها باتفاقات إذعان، أشرف عليها المحتلون الروس والإيرانيون، فيما وقفت الأمم المتحدة متفرجة تدون تقاريرها عن عمليات تغيير وعبث ديمغرافي منهجي؛ حيث يهجَّر السكان الأصليين ليحل محلهم رعايا إيرانيون. انسحبت حلب من المشهد بعد أن كانت عصية، وسبقتها وتبعتها مدن ومناطق هنا وهناك، إلى أن وصل الأمر إلى عاصمة الثورة حمص، فأخلي حي الوعر، آخر أحيائها الثائرة. وباتت سورية الثائرة كلها تقريبًا مجتمعة هناك، في إدلب الخاضعة لسيطرة فصائل، بعضها متطرف، متحاربة في ما بينها، و يتخوف الجميع أن تكون إدلب مقبرة لما تبقى من الثورة، خاصة إذا ما قررت موسكو أن تفعل بإدلب ما فعلته من قبل في غروزني، أو ما فعلته بحلب.
في السنة السادسة أيضًا لم تتوقف موجات النزوح والفرار، قوافل السوريين تبحث عن ملاذ آمن، تصطدم بواقع أنها تحولت إلى ورقة يستخدمها الساسة في خلافاتهم، ويضغط بها بعضهم على بعض. تركوا وراءهم وطنًا صار خرابًا ليجدوا حدودًا مغلقة في وجوههم، أو زخات رصاص تنهال عليهم لتعيدهم إلى الموت هناك، إن لم تقتلهم هنا.
وما بين هنا وهناك، يحتفظ مئات آلاف السوريين بحلم الثورة، ويحلمون باستعادتها، لذلك؛ فإنهم يحتفلون، وإن ليس كما كان يحدث في السنوات السابقة، في ذكرى انطلاقتها ودخولها عامها السابع، يرفعون رايتها ويرددون شعاراتها، لكنك تستطيع أن ترى تلك الحيرة على وجوههم، وذلك السؤال الذي لا يمتلكون إجابة عنه: متى تنتصر ثورتنا؟ حيرتهم تشبه تلك الحيرة التي ارتسمت على وجه الطفل عمران، وأنقذه المسعفون في أحياء مدينة حلب، فجلس مصابًا بالصدمة صامتًا لا يبكي…
لم ينتصر النظام بعد، ولن ينتصر أيضًا، لأن السوريين لم يرفعوا الراية البيضاء ولن يرفعوها، هم مصرون على الاستمرار في ثورتهم، لذلك؛ فقد كتبوا: ست سنوات والثورة مستمرة.