منذُ أن غادرتُ دمشق، جَرَّبتُ ثلاثَ عواصم حتى الآن: الجزائر العاصمة؛ القاهرة، وأجملَهَا: إستانبول.
وها أنا ذا أُفتِي.. وما حدا أحسن مِنِّي:
يحقًّ لكلِّ سوريٍ من العواصم: مثنى وثُلَاث ورُبَاع.. وما مَلكَت أيمانُهُ!
لكن إلى أين هذه المَرَّة؟!.
فخلال خمسِ سنواتٍ في تغريبتي، تسرَّبَ أصدقائي وصديقاتي من بين أصابعي، إلى كُلِّ بلاد الله.. واحدًا تِلوَ واحدةٍ، عَرَضوا عليَّ استماراتِ لجوءٍ أوروبية، فتناسيتُهَا، واقترح عليَّ الحاج محمد ميخائيل سعد أن أُبَادِلَهُ “الدوندورما الإستنبولية ” بالثلوج الكنديّة كُلِّهَا، فغنَّيتُ له: بيت صغير بكندا!، وعرض عليّ صديقٌ رحلةً مجانيةً في ” البِلم” من “طروادة” إلى “إسبارطة”، ليفتحوا “أثينا” وسائر أوروبا بحصانٍ من خشب!
أجبته: – ما زلتُ واقعًا في ” إشكِ” عِشقِ الأستانه؛ لن أخونَها مع عاصمةٍ أوروبيةٍ باردة!، يعتريني هاهنا، شعورُ المُهَاجِرينَ الأوائل إلى يثرب؛ مُذ قالوا لنا بالتركيّة الفصيحة: أنتم المُهَاجِرونَ.. ونحنُ الأنصار!
وقد رأيتُ مُؤتلِفِينَ فيها.. حصلوا على لجوءٍ سياسيٍّ، فصارَ لهم بيتانِ: في إستانبول وفي عاصمة لجوئِهِم، وراتبانِ: من ائتلافِهِم ومن دولِ لجوئِهِم؛ وما زالوا يخطبونَ بالعبارات الطنَّانة عن مُعاناة المُحاصَرين والمُهجَّرين داخل بلدنا سورية، أغلبُهم لم يَزُر أقربَ مُخيَّمِ لُجُوءٍ للسوريين في تركيا، حتى من بابِ التصوير الاستعراضيّ: سيلفي.. والمُخيَّم خلفي!
رأيتهم البارحة في منامي، يركبون الباصاتِ الخضراء إيّاهَا؛ من مَقَرِّهم على شاطئ “بحر مَرمَرة” إلى إمارةٍ الجولاني في إدلب.. مُعزَّزِينَ؛ مُكَرَّمِينَ، يستقبلهم الأدالبة بالأحضانِ والرَيَاحِين؛ يُغنُّونَ لهم:
“مَرمَرتِنِي.. لا بُدِّ ما تتمَرمَر.”
فلمَّا أفقتُ مِن مَنَامِي.. فكَّرتُ أن أبحثَ عن أرضٍ لم يَصِلهَا سُوريٌّ قبلي؛ ولن يَصِلَهَا سوريٌّ من بعدي!، ولا تحتاجُ إلى تأشيرةِ دخول.
دَلَّنِي “الغوغل إرث” على المحيط المُتجمِّد الجنوبي، لكنّي رأيتُ فيما يرى النائمُ لافتةً فوق كِشكِ خشبيٍ وَسطَ الثلوج؛ مكتوبةٍ بِلُغَتَيّ الأسكيمو وبالعربية: شاورما البطريق؛ بإدارة: “أبو سَلمُو” الحلبيّ!، ومِن حَولِهَا حشودٌ من البطاريق وعجول البحر، تتناول لُفافاتِ “الشاورما” بتلذّذٍ مُنقَطِعِ النظير، فلمّا لمحني أبو سلمو صاح:
– تفضّل خَيُّو.. أول دوَاءَه ببلاش!
سألته: – شاورما دجاج ولا عِجِل ولا خاروف؟!
ضَحِك أبو سلمو من غَشمَنَتِي مُشيرًا إلى البطاريق وعجول البحر:
– خيّو.. من نفس السمك اللِّي بيِتزَردَمُوه -يقصِد: يبتلعونَه- بَس نحنا عملناه شاورما.
كتب للمستر “غوغل إرث”: أريد مكانًا لا سوريَّ فيه، تعبتُ من سُورِيَّتي.. يا مِستر غُوغِل، قرِفتُ من السماسرة السوريين، من النَصَّابين، من المُعَارَضة، من أمراءِ الحرب، من فتاوى اللا شرعيين، من دولِ أصدقاء سورية الأعداء، تعبتُ من تغريبتي، أريدُ مكانًا قَصِيًا في الأرض، أعتكِفُ فيه ما تبقَّى لي مِن عُمري.
تعاطَفَ معي “غُوغِل إرث” فأرسلَ لي موقعَ أصغرِ رابعِ دولةٍ في العالم: توفالو، فتذكرتُ إحدى إعلانات تلفزيون الأسد: بوفالو.. بِيلَمِّع لحالو.
ثمّ أرسل إليّ ملفًا كاملًا وافيًا: اسمُها الكامل: “توفالو الله” هكذا اسمها، أعلنَت استقلالها عام 1979، عاصمتها: “فونافوتي” تتألف من سَبعِ جُزُرٍ مَرجانيةٍ في المحيط الهادي، مساحتها لا تتعدَّى 26 كم مُربّع؛ فيها: مطارٌ واحدٌ، مستشفى واحد، سيارة إسعاف واحدة، شاحنة إطفاء واحدة، سيارة أجرة واحدة، وليس فيها رئيس!
والأهمّ.. ليس فيها حزبُ سُلطةٍ أو مُعارَضة. لها برلمانٌ من 15 شخصًا فقط يتمُّ انتخابهم من 10 آلاف مواطن و640 نسمة فقط، ثم ينتخبُ مجلسُ الشعب التوفالي رئيسَ وزراءٍ لمدَّة 4 سنوات فحسب.
شكَرتُه، بدأتُ بِحَزمِ حقيبتي، لكنّه أردَفَني بمُلحَقٍ عِلمِيِّ يُفِيدُ بأن تلك الجُزُر ستختفي في غضون 50 سنة، بسبب الاحتباس الحراريّ وذوبانِ ثلوجِ القُطبين، وأنّ الدول المُجاوِرَة لها وبخاصةٍ “نيوزيلاندا” و “فيجي”، قد بدأت استقبالَ التوفاليين باعتبارهم: لاجِئِي مَنَاخ، وبتعبيرٍ أدَق: لاجئين بِيئِيِّين.
فلم آبَه لتلك المعلومات، لِتَختَفِ “توفالو” بعد 50 سنة، سيختفي قبري معها.. غائِصًا في مِياهِ المُحِيط.
بلدي -أيضًا- تكادُ تختفي تحت رُكامِ القصفِ والتدمير.
كتبتُ إلى حكومة توفالو أُخبِرُهُا بوصولي، بينما يُهَاجِر مُواطِنوها!
ما كِدتُ أثبِّتُ حَجزَ الطائرة، حتى جاءني جوابٌ الكترونيٌّ على الفور:
– أهلًا بك في عاصمتنا فونافوتي.. كيفَك ابن البلد؟
والتوقيع: نجم الدين توفالي- سوريّ الأصل.
يا خيبتي فيك يا “توفالو”.. سَبَقَنِي سوريٌّ إلى هناك!