لم تكن مؤامرة أو مصادفة قط، ولم تكن -قطّ- خطيئة أن يختار قابيل طريقة نبش الغراب الأرض ليداري فعلته! ولم تكن فبركة حيكت سيناريوهاتها في كواليس الإعلام واستديوهات التلفزة المغرضة، وقنوات الإعلام المشبوه! بل كانت تتمكن في جوف الأسباب التاريخية التي تشكل معها الحدث؛ نتيجةً لقهر شديد، لجريمة متكررة، لحلقة السؤال المطل على الفراغ: ماذا بعد؟ ماذا بعد قهر الرجال؟ بعد سجن أصحاب الرأي واعتقالهم بتهمة الخيانة ووهن وإضعاف حسها القومي! ماذا بعد أن استولى العسكر ورجال الأمن على جميع مقدرات البلد، يُعلون شأن الفاسد والسارق ويحطون من قدر الكريم والمبدع! حين تتحول كل مؤسسات الدولة لخدمة أجهزة البعث والسلطة القمعية! ماذا بعد حين تتحول الدولة إلى مزرعة للاستثمار الفردي ونهب خيراتها؟ ماذا بعد حين يكون تهريب وتهجير رأس المال البشري والفكري، ما لم يكن مواليًا وتابعًا، خارج البلد، في خطة ممنهجة لتفريغها من الإمكانيات الجمعية والفعلية التي يمكنها أن تبني دولة! ماذا بعد، حين يصبح قانون الطوارئ سيفًا على رقاب أبناء هذه الأمة، يقطع يد من يرغب ويلجم يد محافظ ومسؤول هنا ومدير هناك في حلقة من الفساد والإفساد المتتالية! وماذا بعد؟ ولازالت الحرة تسأل عن ذنبها!
في البدء كانت “أقرأ”: ماذا بعد؟ لم يكن سؤالًا نظريًا يلح على فكر النخبة وحسب، وإنما شعور جمعي يعتلج في روح ونفس الحيز الوجودي للمجتمع السوري، في ضيق حركته وانعدام مساحة حريته… فكان أن حمله الأطفال جوابًا واضحًا، جوابًا بريئًا بقدر براءة أحلامهم وتصوراتهم، فلا غرابة أن تتفوق جرأة الأطفال على عقلانية كبارهم!
ففي إثر تمدد الربيع العربي من تونس إلى القاهرة، وفي 16 شباط/ فبراير 2011، ولبراءة، تملكت الجرأة عددًا من أطفال مدينة درعا فيتخذوا من جدران مدارسهم لوحة إعلان لا لبس فيها، شاشة بعرض حائط مدرسي طويل بلا نهاية، وذيلوها بأسمائهم الصريحة “بشير، عيسى، نايف” لتقوم قوى الأمن باعتقال الأطفال وتبدأ القصة! والقصة التي بات العالم كله يعرفها، وينقل تفصيلاتها وأحداثها طول سنوات ست مضت، فمن هناك تحركت، من أقلامهم التي دونت على الحيطان، من صرخاتهم البريئة التي دوت في كل بقاع هذا الوطن، تحركت حلقات القهر والظلم التاريخي، تحركت رؤى وأحلام الشباب وعمّت الحشود جموع القرى والبلدات والمدن… يسقط الاستبداد، يسقط القهر والنظام… وكان الغراب في الانتظار! وكانت جريمة الوأد التاريخية البشعة، تتربص بمعنى الكلمة قبل أجساد الصغار والكبار!
قلة من نخبة المجتمع السوري كانوا يتوقعون أن تستمر مظاهرات الشعب السوري أسابيع أو أشهر فحسب! وذلك أمام القمع المفرط في القوة والبطش، فمنذ الحشد الأول في 15 آذار/ مارس 2011 أمام وزارة الداخلية السورية في دمشق والأمن لم يتوانى عن الاعتقال والتنكيل بكل تجمع بشري يخرج عن إرادته، فكيف إن هتف ضده! وتبدأ حلقة الموت المعلن والمفتوح على اللانهاية حين سقط محمود جوابرة ومحمود عبد الولي عياش في أولى حشود الثورة انتصارًا لأطفالها المعتقلين، في مدينة درعا الجنوبية أولى المدن السورية التي أطبق عليها الحصار، أمام المسجد العمري في 18 آذار/ مارس 2011 برصاص الأمن. وتتوالى الحلقة وتتسع معها دوائر المظاهرات والاعتصامات في كل مدينة سورية، من درعا، إلى حمص، إلى إدلب، إلى حماة، إلى دير الزور، فدمشق بضواحيها ومدنها، إلى اللاذقية وجبلة والسويداء…. وكلما توسعت دائرة المظاهرات، توسعت معها دائرة القتل والبطش والاعتقال إلى أن وصلت حد اقتلاع مدن بأكملها، وتهجير سكانها أو قتلهم، وبجميع صنوف الأسلحة، بدءًا بالخفيفة منها، إلى الطيران والأسلحة المحرمة دوليًا، فضلًا عن مجازر الكيماوي وغيرها.
في البدء أعلنها الأطفال، أقرأ، اقرأ فالحرية كلمة تقرأ، تدخل الروح من الرأس، تتمدد فيه وتصبح حياة. والمعرفة ليست خطيئة البتة، فقد قال الوحي بداية، أقرأ.. وقال المسيح في البدء كانت الكلمة، وكل البشر تبدأ بكلماتها. وكانت كلمة الحرية، تستمر وتتنامى إلى أن أصبحت جيشًا مجحفلًا، لم يستطيعوا وقف امتداده لا بالرصاص، ولا بالمدافع، ولا بالطيران، ولا بالسلاح الكيماوي المعد لحروب الممانعة والمقاومة الرذيلة! ولا باستعارة دول الهمج والمشروعات التوسعية وميليشياتها البربرية. ولحكمة في التاريخ، في الفلسفة وفي الفكر البشري، قطعت الغارة الحربية قدمي الطفل الصطوف، وبقي رأسه يصرخ، لتكن كلماته تدق على مسامع الكون وضميره، فان قطعتم رجلي الثورة، فقد بقي رأس الطفل صارخًا، ونظرة عمران الصامتة والمذهولة، وموت إيلان على سواحل البحار شاهد على جريمة قرن.
غيفارا ومانديلا السوريان
وتستمر الجريمة، ويستمر الحرف السوري نقشه على الجدران قصة أسطورته الكبرى، أسطورة البدء والخلق والولادة، على الرغم من كل أشكال موته، ويكتب أبناء المدن المحاصرة لسنوات، والمهجرة قسرًا، على حيطان بيوتهم المدمرة، عن اقتلاعهم من جذورهم ومن تاريخهم، فقد رفضوا الهزيمة، وكانت حياتهم كلمة حرية والثورة عشقهم، رفضوا الانكسار: فمن أسوار عاصمة الياسمين والحب، أحبك كما أحب الثورة، القابون! والوعر الحمصي أيضًا، وقبله المئات من المدن والأحياء السورية في سياق الخطة نفسه، تفرغ المدن من مواطنيها لتلغى منها كلمة الحرية.
ماذا عسى السوري أن يقول بعد، في سابع سنينه العجاف؟ عن أي مظلمة يمكن أن يقدم أو يوثق؟ وكل تقارير العالم ترصد موته المعلن! وكل منظمات العالم الأممية منها وغير الحكومية توثق وتدين، مئات الآلاف من القتلى، ملايين المهجرين، وما يزيد على مئتي ألف من المعتقلين، وكل منهم أسطورة!
ربما يذكر تاريخ البشرية نيلسون مانديلا، بوصفه سياسيًا وثوريًا دام اعتقاله 27 عامًا في معركته الإنسانية ضد نظام الفصل والتمييز العنصري، فهل يمكن للتاريخ -أيضًا- أن يتحدث عما يربو عن 220 ألف مانديلا سوري يقبع في سجون الظلام والمعتقلات، وهل يمكنه أن يذكر رانيا العباسي وأطفالها الخمسة المعتقلين بعد زوجها؟ وهل يمكنه، للتاريخ، أن يسجل أن رانيا العباسي مانديلا سورية، صاحبة الكلمة، والكلمة فحسب، في مقارعة التمييز العنصري والهمجي بحقها امرأةً حرةً، وبحق أطفالها الخمسة بوصفها أمًّا، وبحق زوجها بوصفهم مواطنين سوريين؟
وليس فحسب، فغيفارا، رمز الروح الثورية في العالم، الطبيب الذي أصر على الانتصار لحرية شعوب الأرض، وما زالت قبعته رمز معظم ماركسيينا، وأقواله وصوره تملأ الحيز النفسي والشعوري فيهم، هل يمكنهم أن يروا الطبيب حسن الحريري! حسن الحريري الذي أكلت القذيفة سبعة من أطفاله وأمهم دفعة واحدة، وحاولت منظمات ودول كثيرة أن تأخذه إليها، فرفض وتحول من طبيب أسنان إلى جراح يعالج جرحى حرب المجوس والفاشية والعالمية، وعصابات الموت والقتل المرتزقة المأجورة، ما يزيد على ست عشرة دولة لقتل السوريين وكلمتهم، كلمة الحرية. ويسجل التاريخ أنه في 12 آذار/ مارس، وقبيل ذكرى السنة السادسة يقضى، غيفارا سورية، حسن الحريري أبو الشهداء، يقضى بصمت بعد أعوام ثلاثة من أبنائه السبعة وأمهم!!!
هي سبع عجاف يا يوسف! وأرض ملؤها الصبر يا أيوب! ولا سفينة نجاة بعد يا نوح! والغراب لازال يعلّم قابيل فنون الوأد الحرام، وليل المعتقل طويل ولم ينصفنا التاريخ الماكر، كما رانيا؛ بعد يا مانديلا، “فالعظيم دائمًا يبقى وحيدًا، ولكن كلماته وحدها ما تبقى” يا غيفارا … وعامنا السابع يسير بدفة الكلمة والكلمة روح، والسوريون قرروا بملء إرادتهم رمي ما عليهم من أحمال، مودعين ثياب استبدادهم الرثة ورمي المتبقى منها في النار طهرًا، فلا دفء يسكنهم ما دامت أجسادهم تعتاد الكسوة والاحتماء! فكانوا عراة في الظل، في بحر الظلام، في زمن الشمس، زمن الكلمة، والكلمة “حرية”.