بعد الحرب العالمية الثانية، وتدخل الأميركيين العسكري لإنقاذ أوروبا من أيدي النازية أصبحت أميركا قائدة الغرب بلا منازع، لا تتفرد أي دولة فيها باتخاذ قرار إن لم تسبقها أميركا أو توافق عليه، ومع صعود الظاهرة الترامبية هناك، تنفس اليمين المتطرف الأوروبي الصعداء، وبدأ إعلامهم يُبشّر بعودته إلى السلطة من خلال القوانين التي تحكم تلك الدول، على الرغم من برامجه شديدة الخطورة على مجتمعاته وعلى شعوب العالم الذي يتلقى عدوانيته الكلامية اليوم، ويخشى من تحولها إلى حروب وفوضى غدًا، فشعارات مثل أميركا أولًا وفرنسا أولًا، وسبقتها روسيا أولًا وبريطانيا أولًا، تحمل في داخل أولوياتها تضاربًا بالمصالح، قد تصل إلى تناقض، ليست بعيدة عن أسباب الحرب العالمية الثانية.
ما يساعد انتعاش ذلك اليمين الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها الدورة الرأسمالية العالمية، وأفكار العولمة التي تهدد تلك الدول بالإفلاس، وإلقاء عدد أكبر من مواطنيها في مجاهل البطالة أمّ الفوضى والرذائل والحروب، ومن جهة أخرى فشل اليسار الذي استلم السلطة في عدد من تلك الدول، في وضع الحلول الملائمة لتلك الأزمات، وانهيار تنظيماته وتشرذمها، بل انهيار حتى التنظيمات اليمينية التقليدية وتشرذمها أيضًا؛ حتى باتت المجتمعات لا تميز بين يمين ويسار؛ ما جعل البيئة صالحة لتوليد تنظيمات متطرفة تحل محلها، وتُنذر بذلك الخطر. لكنَ تجربة شعوب الغرب الأوروبي مع قيادات، أمثال هذا اليمين، سواء بالحروب العالمية أم بالنظم النازية والفاشية التي ولّدتها، هي من المرارة المأسوية بحيث جعلت العقلانية الديمقراطية تتجذر في تلك المجتمعات، وتصبح الدرع القوي الواقي لها من ذلك اليمين، لدرجة أقرب إلى المستحيل أن توصله أو تسمح له الإمساك بمقاليد أمورها.
ما تشهده الساحة الأوروبية -إلى الآن- هو تغلب عقلانية حضارتها بقيمها الإنسانية، على جعجعة التطرف اليميني العنصري، على الرغم من المشكلات المهمة، وغير القليلة، التي تواجه تلك المجتمعات، حتى لو لاحظنا تبني كثير من المرشحين المعتدلين بعض ما يطرحه التطرف اليميني من أفكار، كمرشحي الانتخابات الفرنسية مثلًا، فظواهر مثل ظاهرة إعلان أكثر من دولة أوروبية الاعتذار عن استقبال ماري لوبان، المرشحة اليمينية المتطرفة؛ بسبب عنصريتها، بل رفض البرلمان الأوروبي استقبالها، وقد يكون سببه الأوضح برنامجها الذي يَعِد بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي على غرار بريطانيا، لكن ذلك الاعتذار يُدرج بوصفه ظاهرة لها دلالتها على رفض أوروبا اليمين المتطرف، والظاهرة الثانية، سقوط ذلك اليمين في الانتخابات الهولندية، بفارق كبير يعزل مرشحه ويبعده عن استلام مقاليد الأمور في ذلك البلد، على الرغم من أنه حاول جاهدًا استغلال موضوع الخلاف مع نظام أردوغان التركي؛ لبعث العنصرية الهولندية ضد الإسلام والمسلمين، وضد اللاجئين المسلمين، وأعطى تصريحات مقززة في تلك الحادثة، جعلت الرئيس التركي يبالغ أيضًا في رد فعله، وأكاد أجزم أنه لولا أجواء الانتخابات في البلدين لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، إذ كان من الممكن لأردوغان أن يعتمد أحدًا في سفارة بلده، أو من وجوه الجالية التركية الموالية له؛ لإدارة التجمع وشرح التعديلات المقترحة، ويتجنب الصدام مع السلطة الهولندية، ويسحب ورقة مهمة من أيدي العنصريين الهولنديين ولا يُسبب أي مضايقة عنصرية مستقبلية للجالية التركية أو المسلمين هناك، كما كان بإمكان ذلك المرشح العنصري ألا يدلي بمثل هذه التصريحات الشديدة العدائية تجاه الإسلام والمسلمين، ويستفز قاصدًا أردوغان وحزبه، لكنً المصلحة الانتخابية للطرفين كانت تقتضي مثل ذلك التصعيد الذي حجمته العقلانية الغربية، وجعلته زبدًا لا ينفع أحدًا من الشعوب. أما الظاهرة الثالثة، فهي الوضع الألماني الذي استلم سلطته الحزب الديمقراطي المسيحي برئاسة السيدة الرائعة والاستثنائية، ميركل، وهو حزب يميني بطبيعته، لكنه استطاع بعمقه العقلاني أن يُقيم أوسع ائتلاف يحكم البلاد من اليمين أو اليسار، وينجح ليس فقط بتجنيب ألمانيا أي أزمة اقتصادية، بل يساعد الدول الأوروبية الأخرى على تخفيف وطأتها عليهم، كما حدث مع اليونان، وإنما أن يفرض سياسة استقباله أكثر من مليون مهاجر، ويدير أمورهم دون جعجعة، ويتصدى بنجاح للتطرف اليميني العنصري الذي حاول الاحتجاج بصوت مرتفع على سياسة ميركل تجاه الهجرة والمهجرين، وستطل الانتخابات الألمانية، وتلك الورقة مسحوبة من التطرف اليميني ومستوعبة من العقلانية الألمانية. ويتراءى لي شك كبير في نجاح لا عقلانية اليمين المتطرف الأوروبي في الانتخابات الفرنسية المقبلة أو أي من الانتخابات الأوربية الأخرى، وبالطبع؛ فإن الانتخابات الحرة النزيهة، كما عرفها الغرب، مؤشر مهم إلى عقلية المجتمع الذي تجري فيه، على الرغم من الأوضاع التي تسمح بوجوده عند بعض فئات المجتمع، أما النخبة المثقفة من الكتاب والفنانين، على تنوع الفن الذي يمثلونه، والصحافيين الكبار، فهم أشد دفاعًا عن تلك العقلانية الديمقراطية، وهم الذين يقودون مجتمعاتهم للإصرار على قيمها الحضارية بغياب فاعلية التنظيمات السياسية.
لكنَ التساؤل المشروع هنا: لماذا -إذن- نجح ترامب البعيد عن العقلانية في الولايات المتحدة الأميركية، زعيمة الغرب؟
ذلك يحتاج إلى بحث خاص، فقد تكون آلية الانتخابات الأميركية وراء ذلك، وقد تكون مداخلات أخرى، وقد تكون عدم تجذّر الحضارة الغربية الأوروبية وقيمها في أميركا حديثة العهد بوصفها دولة ديمقراطية، ومع ما تعانيه أميركا من خيبة أمل في الظاهرة الترامبية، فإن المجتمع المدني فيها تصدى بنجاح لهلوسات ترامب ودفعه إلى تبديل مواقفه أو التخفيف منها وحكم القضاء الأميركي عكس رغبة رئيسه أكثر من مرة، بل إن أغلبية نخبة المجتمع الأميركي وقفت موقفًا حازمًا ضد تلك الظاهرة، وعدّت يوم نجاحه يومًا حزينًا للحضارة الأميركية. إن هذا التحرك الاجتماعي المدني الرائع لمعارضة الظاهرة الترامبية أكبر دليل على عقلانية المجتمع الأميركي، على الرغم من نجاحها الانتخابي.
فهل سنشاهد قيم تلك العقلانية في تحرك إنساني مقبل يرى ما يجري في سورية بعين تلك الحضارة؟ أم ستبقى تلك العقلانية وحضارتها حبيسة مجتمعاتها؟ لننتظر ونرَ…