أقام الفنان مناف حلبوني نصبًا ضخمًا، في ساحة “نوريماركت” وسط مدينة درسدن الألمانية. مادته: ثلاثة باصات “مقلوبة” بشكل طولاني. مثبّتة على قواعد خرسانية متينة. الباصات ليست “خردة”، بل كانت في الخدمة، قبل أن يستعملها الفنان بالشكل الذي ظهرت عليه. بدا المشهد مثيرًا، بل صادمًا، ومتناقضًا مع شكل العمارة الباروكية المحيطة بالمكان!
ما هي فكرة الفنان، ورسالته؟
يقول في لقاء مع قناة (D. W) الألمانية: كنت أتابع أخبار سورية. لفتتني صورة في مدينة حلب، لثلاثة باصات محطمة. لم يبق منها سوى هيكلها الخارجي. رٌفعت –كيفما اتفق– فوق بعضها بشكل عرضاني في شارع، مشكلة حاجزًا يحجب الرؤية عن القناصة، الذين يستهدفون حياة المارّة. فكرة مبدعة لبشر أرادوا أن تستمر حياتهم، على الرغم من التهديد بالقتل.
استعار الفنان الفكرة، وأعاد انتاجها على طريقته: نصبًا ضخمًا يذكّر بقوة الحياة في مواجهة الموت. يمجّد الطاقة الإيجابية لبشر أرادوا أن يكملوا حياتهم، وسط ركام الدمار والقتل. لكن، ما هي أوجه الترابط بين حلب ودرسدن؟!
درسدن –كما حلب– من المدن العريقة. تشتهر بأوابدها التاريخية، وقلاعها، ومتاحفها. هي عاصمة ولاية ساكسونيا، وجوهرة العصر الباروكي. تعرضت في نهاية الحرب العالمية الثانية، في 13 شباط/ فبراير 1945 إلى تدمير شبه كامل، من جرّاء قصف الطيران الأميركي، وسلاح الجو الملكي البريطاني لها. ذلك الحدث كان من أكثر وقائع الحرب العالمية الثانية إثارة للجدل، بسبب العنف المفرط ضد المدنيين دون مسوغ، ولا سيما أن الحرب كانت على وشك أن تضع أوزارها. ما جرى في حلب من تدمير للبشر والحجر، وقصف للمدينة القديمة، والأوابد التاريخية، شبيه بما جرى في درسدن. الفارق الوحيد أن تدمير درسدن استغرق أيامًا، أو أسابيع، بينما حلب تتعرض للتدمير منذ سنوات.
أعاد الألمان بناء مدينتهم بعد الحرب، لكنهم تركوا، في أثناء ترميم المباني الأثرية والكنائس، والمتاحف، ودار الأوبرا… الحجارة السوداء المحروقة –كما هي– مرصوفة إلى جانب الحجارة البيضاء الحديثة، كي تبقى شاهدًا على آلام وأهوال الحرب. هذا الأمر يعطي الأمل، بأن حلب والمدن السورية الأخرى سوف تنهض من رمادها، وتعيد بناء نفسها، بالطاقة الإيجابية لأبنائها. الحياة أقوى من الموت، وسوف تستمر!
لم ينقل الفنان صورة الحرب كما جرت في حلب. باصات درسدن تختلف. هي بكامل هيكلها، وعجلاتها، وزجاج نوافذها… أرادها الفنان نصبًا، أو تمثالًا يدين الحرب، ويذكّر ببشاعتها. سواء في درسدن، أو حلب، أو أي مكان في العالم.
كان الافتتاح في 7 شباط/ فبراير الماضي، في الذكرى الـ 72 لتدمير مدينة درسدن. أثار الحدث ردات فعل متباينة. وضع بعضهم الورود إلى جانب النصب على روح الضحايا. أظهروا التعاطف، وطرحوا الأسئلة، بينما قام أنصار حركة “بيغيدا” اليمينية المتطرفة، بتظاهرة احتجاجية ضد إقامة النصب، بذريعة: تشويه المدينة، وسرقة ذكرى ضحايا الحرب العالمية الثانية، وكأن ضحاياهم غير ضحايا الآخرين –كما ردّ الفنان– الذي قال: أنا أذكّر بضحايا الحروب الذين يموتون في أي مكان من العالم، وليس في حلب فحسب. ردّ المتظاهرون بالصفير، وإثارة الضجيج، ولم يفسحوا المجال لسماع الكلمات في أثناء الافتتاح.
ثمة مفارقة أخرى هي: هوية الفنان المركبة التي تشبه إلى حدّ كبير هوية أعماله التركيبية، الخارجة عن القواعد الكلاسيكية. هو من أب سوري، وأم ألمانية. وٌلد وعاش في دمشق، لكنه منذ الطفولة كان يقضي العطل الصيفية في بيت جدّه لأمه في درسدن. يعرف المدينة، وكل ركن فيها، ويدرك التطورات التي حدثت عليها بعد توسعها. يجيد اللغة الألمانية، بلهجة أهل درسدن، كأي واحد من سكانها. جاء إلى ألمانيا منذ سنوات لإكمال دراساته العليا. لم يبق فيها بعد إنهاء دراسته بإرادته، وإنما لأن طريق العودة إلى سورية بات مغلقًا.
في إجابته عن سؤال الهوية قال: في السابق كان الأمر يربكني. أنا في سورية ابن الألمانية، ولو أن ذلك يُقال: بالمزاح، ومن باب التحبّب. في ألمانيا وصفني يميني متطرف “بالعربي القذر”، في “إميل” في أثناء التهديدات التي انهالت عليّ. تجاوزت منذ حين مسألة الهوية. أشعر أنني إنسان. هويتي هي: الكون.
تعليق واحد