يبدو أننا أمام صعوبة كبيرة في اكتشاف قواعد اللعبة المعقدة، التي حكمت التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية والخارجية، لما آلت إليه الحال العربية. وخاصة أنّ الفكر السياسي العربي اعتاد على تحميل الاستعمار كل بلايا التأخر العربي، وأطلق العنان لديماغوجية رنانة تجعل من العداء للإمبريالية والصهيونية (وهو عداء مسوّغ تاريخيًا وواقعيًا) وسيلة للتنفيس عن الغضب، وصبه على العامل الخارجي الذي بات “شيطان العرب”، ليعفي العامل الداخلي من النقد. ويبدو -أيضًا- أنّ الثقافة السياسية العربية تعلقت بالشعارات الزاعقة، والصيغ الجامدة، وعجزت عن ترجمتها في الحياة باستيعاب إنجازات العلم والمعرفة والتنظيم الاجتماعي الحديث، وتفجير الطاقات الخلاقة لدى شعوبنا العربية، أو تكريس أولوية المصلحة العامة بوصفها المبدأ الحاكم للفضاء العام.
فما أوجه القصور المحتملة في تفكيرنا السياسي؟ وكيف نفكر في السياسة أو تتطور لدينا معرفة سياسية مثمرة؟
تتعدد أوجه القصور في الثقافة السياسية العربية: فمن جهة، تهيمن الأدلجة العميقة على العقل السياسي العربي المعاصر بصفة خاصة، ما جعله لا يهتم إلا بالعموميات وينسى التفصيلات. ومن جهة ثانية، لا يمتلك الوعي المطابق لحاجات الواقع العربي.
ويبدو أنّ ثمة عاملين “خفيين” يجعلان معرفتنا السياسية بلا محصول، بحسب تعبير الأستاذ ياسين الحاج صالح: أولهما “الخصوصية”، وثانيهما “المؤامرة”. إذ من غير المرجح لثقافة تهيمن فيها فكرة الخصوصية أن تتمكن من تطوير معايير ونظريات متسقة لضبط العالم من حولها وتنظيمه، ولتطوير سياسة كبيرة أو حيازة أهلية لسياسة العالم. أما عقيدة المؤامرة؛ فهي شائعة عند الحكومات، وعند جمهور شعبي واسع. وخلاصة الأمر أنّ التشكيلة التآمرية تحكم على معرفتنا السياسية بالسطحية والسذاجة وضآلة المردود.
وفي الواقع، فإنّ الإدراك المغلوط للعالم الخارجي يقود إلى تشخيص مغلوط للمشكلات، وطرح حلول غير صالحة لا تقود إلا إلى الفشل، وهذه سمة من سمات الثقافة السياسة العربية في التاريخ المعاصر، وزادت شدة هذا الانحراف في العقود الأخيرة، فالعرب يقدّرون إمكانياتهم بمبالغة، ويقزّمون إمكانيات أعدائهم، ويرون مجمل السياسة الغربية مؤامرة، ليس لها إلا هدف واحد هو القضاء على الحلم العربي.
إضافة إلى أنّ التركيز على المشكلة الرئيسة وتحديد الأولويات لم يكن سمة من سمات السياسة العربية ولا سمة من سمات التفكير السياسي العربي، ما أدى إلى استنزاف الموارد الاقتصادية والبشرية في مساعٍ ليست ذات جدوى. ثم أنّ الثقافة السياسية الحقيقية غدت مغيّبة ومستهجنة، فتلاعبت العواطف دومًا بأهواء مجتمعاتنا، وطغت عليها شعارات ديماغوجية، وتحكمت السرعة في قرارات السلطات فيها. وغدا أغلب العرب لا يؤمنون بالنفع العام ولا المال العام، وليسوا بقارئين ولا بمدققين، أعداء للحداثة السياسية، عاشقون للتعصب وللتطرف، لا يحبون العمل الجماعي، يرددون الشعارات من دون تفكير مسبق فيها، لا يصححون مفهوماتهم القديمة.
ويبدو أنّ مجتمعاتنا لم تجد فسحة من التغيير؛ من أجل بناء وعي جديد بالزمن والتقدم، فهيمنت على العقول تلك الأوهام السياسية العمياء، وعمَّ الاضطهاد والاستبداد، فلا أي مساحة للرأي الآخر، بل ولا حتى هامش صغير للحريات، ساد القمع والكبت في كل مكان، كل هذه وتلك جعلت مجتمعاتنا تتفكك، ونخبها تهاجر، وشبابها ينغلق على ذاته.
وهكذا، فإنّ جذور إشكالية الأداء السياسي العربي تتمحور حول أسلوب الأداء السياسي الذي لا يواكب التطورات والمستجدات الفكرية والسياسية والاجتماعية، إذ إنّ جزءًا من أسباب وأزمة العجز العربي أنّ بعضهم مازال عاجزًا عن إدراك الحقيقة القائلة بأنّ قواعد اللعبة السياسية التي كانت سائدة إبان حقبة الحرب الباردة (من 1945 إلى1991) قد تلاشت تمامًا، وحلت محلها قواعد جديدة، تستوجب من الذين يريدون حماية أوطانهم وتقدمها سرعة إعادة النظر في رؤاهم السياسية؛ لكي تتكيف إيجابيًا مع قواعد اللعبة الجديدة في السياسة الدولية، بما يخدم المصالح العربية العليا. فيما يطغى على غالبية أنظمتنا السياسية شلل سياسي فاضح، ينطوي على معادلة تحفظ وضعية أغلب الحكام من دون أن يكلف هؤلاء أنفسهم عناء مراجعة أدائهم السياسي ووضعه في ميزان النقد البنّاء، بما يسهم في دفع عملية إصلاح الواقع السياسي الذي تعانيه شعوبنا.
ولا شك في أنّ هناك مسؤولية للنخب السياسية الرسمية التي أنتجت رؤية بيروقراطية وأمنية ثقيلة، ركزت على إخماد حيوية المجتمعات العربية، وإجبارها على الاستقالة من الساحة السياسية والثقافية، وإخراجها من التاريخ؛ لضمان انفراد الرئيس أو الزعيم أو الداعية بكل الفضاء السياسي الوطني، مهما كان حجم القهر اللازم لإنجاز المهمة. وهناك مسؤولية كثير من المثقفين الذين سلّموا لسلطة الجهل والقهر، وفشلوا في إنتاج معارف ونماذج للسياسة والفعل الاجتماعي تطلق جدلية التقدم والإنجاز، متجاوزة القوالب الأيديولوجية المبسطة، وتحل معضلة العلاقة بين التغيير في الداخل والحد من تدخلات الخارج.
وهكذا، بعد أن انهار عالم كامل من الوقائع والأحلاف والمسبّقات والمفهومات والمبادئ والأوهام، لا بدَّ من مراجعة جذرية للخطط والسياسات والمُثُل والعقائد والأفكار التي بلورت الإخفاق العربي وقادت إليه. ولعل تاريخانية عبد الله العروي وياسين الحافظ تمدنا بوعي نوعي جديد لهويتنا وخصوصيتنا ذي مستويين: أولهما، التوصيف التاريخي المعتمد على استقراء الواقع في ما هو عليه، بعيانيته الملموسة، بوصفه نتاج حركة تطوره التعاقبية المحكومة بمنطقها الداخلي الخاص، بمعنى التميّز لا الامتياز. وثانيهما، التقويم التاريخي المستند إلى التوصيف والاستقراء في عملية الفهم والاستنباط والتأويل، بعدّ تاريخية ظاهرة ما، أي: كيفية عمل قوانين تطورها الخاصة، وفق قوانين تطور عامة. إذ يبدو لنا أنّ الفكر العقلاني النقدي، المستوعِب حصاد التجربة العالمية، والمنفتح على جميع التيارات الفكرية والسياسية، يمكنه أن يتجاوز الصعوبات المنهجية بتحديد المصطلحات والمفهومات منذ البداية، وهذا ما نطمح إليه.
وإذا كان وضوح الرؤية شرطًا ضروريًا لنجاح أي عمل، فإنّ الرؤية الواضحة لا تنبثق إلا عبر قطيعة معرفية مع الرؤى القديمة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، ومحاولة تصفية الحساب معها نهائيًا. بعدّ أنّ الحق قبل الاعتقاد، والعلم والمعرفة قبل الأيديولوجيا، والواقع الموضوعي قبل الميل الذاتي والتفكير الرغبوي.
وربما تتميز هذه المرحلة التي تمر فيها المنطقة العربية بأنها من أدق المراحل وأصعبها على الإطلاق، ففي حين أنّ هذه المرحلة هي الأكثر فراغًا من حيث اعتماد الأهداف الواضحة والاستراتيجيات الهادفة التي تجتمع عليها عناصر الأمة وهيئاتها، فإنها في الوقت ذاته من أكثر المراحل زخمًا بالحواشي والشعارات والادعاءات التي تعكس حقيقة الأزمة على مستوى الممارسة والتطبيق.
ومما لا شك فيه أنّ الجانب الأكبر من المسؤولية عن الضياع العربي تقع على كاهل صنّاع القرار في العالم العربي الذين لم يملكوا رؤية لمستقبل أوطانهم، ومن ثم؛ للمستقبل العربي عمومًا، ولم يملكوا مهارة بناء مؤسسات حقيقية قادرة على الإنجاز، ولا خطة سياسية أو استراتيجية لنقل المجتمعات التي يقودونها إلى التقدم والاقتدار بمقاييس العصر. بل لم يملكوا حتى مهارات السياسة، التي تحسن توظيف القدرات المتاحة لتحقيق أفضل النتائج، سواء في إدارة الأزمات أو الانتصار في المعارك أو إدارة المؤسسات طبقًا لمبدأ الجدوى فحسب.
ولعل التوصيف السابق يكشف عورات توزيع الأدوار في عالمنا العربي، حين يفضل أغلب صنّاع القرار أهل الثقة على أهل الخبرة في كثير من المناصب السياسية والاقتصادية، حيث يفضلون من لا يمتلك الخبرات المطلوبة لكنه يؤيدهم، على حساب من يمتلك المهارة والكفاية اللازمتين لكنه يعارضهم، أو حتى لا يتقرب منهم أو يخطب ودهم.
تعليق واحد