قضايا المجتمع

مأساة المعتقلين مستمرة في سورية

قضية المعتقلين والمخطوفين من أكثر الملفات مأسوية في سورية، وهي ليست وليدة اليوم، وإنما مستمرة منذ سيطرة البعث على الحكم، وارتفعت وتيرة الاعتقالات في عهد الأسدين لتصل إلى ذروتها مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد الديكتاتوري، لتطال مئات الألوف من السوريات والسوريين المطالبين بالحرية والكرامة، وضاقت بهم سجون وزنازين الأسد، لتتحول قضيتهم إلى مأساة حقيقية أكثر إيلامًا وأشد وطأة، ليس على المعتقلين وحدهم، بل أيضًا على أهاليهم وأقاربهم الذين صرفوا أموالهم وباعوا ممتلكاتهم، ليس لإطلاق سراحهم وحسب، وإنما لمعرفة أي شيء عن مصيرهم، وهل مازالوا أحياء أم قتلوا!

فمن مات، مات وارتاح، ومن يعيش خارج السجن والزنازين وأقبية المخابرات، لديه على الأقل خيارات أخرى للتخفيف من معاناته، سواء بجهده أو بمساعدة الأخرين، ولكن المعتقل ليس لديه أي خيار أخر، فهو وحيد، لا حول له ولا قوة له في مواجهة سجّان لا يعرف أي نوع من الرحمة أو الشفقة، ويتفنن بتعذيبه ومعاملته بقسوة لا تخطر على بال إنسان. حيث لا يمكن بأي حال تصور الوضع الانساني والنفسي والجسدي المأسوي للمعتقلين المعرضين في كل ساعة ولحظة للموت المحقق، ووصلت الأمور داخل المعتقلات والزنازين إلى حد أن الموت أصبح أمنية حقيقية يتمناها المعتقل للخلاص من التعذيب الجسدي والنفسي الذي يعيشه في كل لحظة وحين على مدار اليوم.

لقد بات المعتقلون في سورية اليوم همّنا ووجعنا الأول، والموت البطيء، والعدّاد الصامت للموت المجاني الذي لا يلتفت إليه أحد، وما ظهر -ويظهر- للعلن من قضية المعتقلين ما هو إلا جزء صغير من جبل الجليد، سواء كان ذلك من حيث الأرقام أم التعذيب وأوضاع الاعتقال.

لقد عايشت وضع المعتقلات والمعتقلين في مدى أربع سنوات ونيف، إذ كنتُ يوميًا على تماس مباشر معهم في نظارات قصور العدل بدمشق وريفها، وفي سجن عدرا، وفي محكمة الإرهاب والمحاكم العسكرية، وشاهدت بأمّ عيني أثار التعذيب على أجسادهم وعلى نفسياتهم، كما استمعت إلى شهاداتهم المؤثرة، عن صمودهم الأسطوري، وعن مدى قدراتهم على تحمّل أوضاع الاعتقال شديدة السوء التي لا تتحملها حتى الجبال، وعن رفاق لهم لم يستطيعوا التحمل فقضوا أمام أعينهم من جراء التعذيب والجوع والبرد والمرض. وقد ازدادت أوضاع المعتقلين سوءًا منذ بداية عام 2016 بعد ارتفاع وتيرة انقطاع الكهرباء وشح المياه والغذاء وانعدام التدفئة والخدمات الطبية، إضافة إلى التعذيب اليومي الذي يتعرضون له؛ ما زاد من معاناة المعتقلين وخطر تعرضهم للموت من جراء ذلك أكثر فأكثر. وقد حدثني صديق لي اعتُقل في شباط/ فبراير الماضي لمدة أسبوع عن مدى قساوة أوضاع الاعتقال، وأكد لي أنه لو لم يُفرَج عنه لما كان تحمل أكثر من شهر، على الرغم من أنه لم يتعرض لأي تعذيب جسدي، مستغربًا سرّ الصمود الأسطوري لآلاف المعتقلين، فهو لم يستطع أن يتحمل أكثر من أسبوع، فخرج  معتلّ الصحة، ولحظة خروجه من المعتقل شعر كأنه كان معتقلاً لسنوات، وجريمته الوحيدة هي أنه كان على صفحته في الفيس بوك ينتقد الدور الروسي والإيراني وممارسات “حزب الله” في سورية، ثمانية أيام من الاعتقال في الأمن العسكري كانت كافية لإدخال الرعب إلى قلبه وقلوب المحيطين به من عائلته وأقربائه، فاضطر إلى السكوت موقتًا، ريثما يستجمع قواه مجددًا بعدما شاهد وعاين أوضاع الاعتقال البشعة، وهذا هو حال كل الذين يعيشون في مناطق سيطرة النظام، ولا أحسب أن الأمر يختلف في مناطق سيطرة الكتائب المسلحة وسجونها ومعتقلاتها إن لم يكن أكثر سوءًا.

لن أنسى منظر المعتقلين الذين كانوا يُستحضَرون إلى محكمة الارهاب بأجسادهم الهزيلة وأقدامهم الحافية إلا من الدمامل والقيح والدماء الصفراء تنزف منها، وأياديهم المكبلة بالأصفاد، ولا تلك الروائح الكريهة التي كانت تفوح منهم، وكأنهم خرجوا لتوهم من القبور، فقد حدث ذلك في ربيع صيف 2013 عندما كنت أتابع ملفات عدد من المعتقلين في محكمة الإرهاب، إذ فوجئت بعناصر الشرطة العسكرية يقودون ستة من العسكريين وهم حفاة عراة إلا من الأصفاد ولباسهم الداخلي إلى غرفة قاضي التحقيق، وقد فاحت من أجسادهم رائحة كريهة لا تطاق، تشبه الرائحة التي تنبعث من الجثث المتفسخة، وأجبرت تلك الروائح القضاة على ترك مكاتبهم، بينما أرتدى عناصر الشرطة والموظفين الكمامات لمنع تسرّب تلك الرائحة إلى أنوفهم. وهالني ذلك المشهد وأثّر فيّ عميقًا، فهرعت فورًا إلى مكتب وزير العدل وشرحت له الأمر، واعترضتُ أمامه بشدة على هذه المعاملة القاسية والوحشية، ودعوته إلى التدخل لوقف هذه المأساة، إلا أنه خذلني باتهامه لهم أنهم إرهابيون.

حتى المقعدين والمعاقين لم يسلموا من الاعتقال والتعذيب، ولا حتى من المحاكمة، فما زالت صورة أحد المعتقلين المعاقين عالقة في ذهني، عندما أحضروه على كرسي متحرك إلى محكمة جنايات الإرهاب لحضور جلسة المحاكمة، حينئذ قلت للشرطي لماذا تعذبون أنفسكم بهذا الشخص المُقعد؟ ماذا فعل؟ وهل يستطيع فعل شيء وهو مقعد لا يستطيع الحركة؟  فكان الجواب الصاعق “أنه يستطيع الكتابة والكلام فلسانه طليق كما يداه”. ثم تابع الشرطي إجابته “إنه يا أستاذ يكتب على الفيس ويحرّض ضد القيادة ويدعم الارهابيين”!

والسؤال الذي يطرح نفسه علينا اليوم بقوة، ماذا بوسعنا أن نفعل لقضية المعتقلين سوى ما نكتبه هنا وما نقوله هناك؟ ربما لا نستطيع فعل شيء للتخفيف من آلامهم، لكننا بالتأكيد نستطيع الصراخ بقوة، حتى ولو بُحّتْ أصواتنا، إنه أضعف الإيمان، أن نستمر في الصراخ ثم الصراخ في وجه هذا العالم حتى ينزعج من صراخنا المستمر، فلربما حينئذ يتحرك لوضع حد لمأساة المعتقلين ليس إيمانًا بحرّية الانسان وحقوقه، بل حتى يتخلص من سماع صراخنا الذي أزعجه.

فلنعمل ما بوسعنا، ولنصرخ بأعلى أصواتنا، ولا يجب أن نكف عن الصراخ، ما دام يوجد معتقل واحد، سواء في سجون وزنازين النظام، أم في سجون المعارضة المسلحة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق