قضايا المجتمع

من السلطة إلى الدولة

(1)

عبر التاريخ تطورت السلطة، ومع تطورها كان مستندها يتجدد، فبعد أن توسعت العشيرة، وتعددت مراكز القوى، وضعفت مقدرة شيخ العشيرة على الضبط، والربط، فتولدّت الحاجة إلى مرجعية أقوى، حيث تكونّت القبيلة التي ضمت عدة عشائر، وأسُندت السلطة إلى شيخ القبيلة، وكان لا بد أيضًا من البحث عن مستند جديد للحق في السلطة الجديدة، كأن يكون شيخ القبيلة هو الأقوى، أو الأكثر فروسية، أو الأعرق نسبًا، أو أن ينتسب إلى أقوى العشائر التي تكوّن القبيلة.

كانت السلطة في ذلك العصر توجب على من بيده الأمر توفير الكلأ والماء، وحماية الحرمات. لم يكن الاستقرار، والاختصاص بالأرض قد بدأ، لكن هذا لا يعني أن القبيلة لم يكن لها حرم من الأرض والمراعي، لا تسمح لأي (غريب) أن يعتدي عليه، ولكن هذا الحرم لم يكن ثابتًا، كان ينتقل مع القبيلة حيث الضرورة، والحاجة، والأمن.. ومع هذا التطور بدأ الكهنة، والحكماء في تطوير مصادر الحق في السلطة، وهكذا كانت الآلهة التي تجسدّت في بعض الأجرام السماوية (الشمس، أو القمر)؛ إذ إن شيخ القبيلة يستمد الحق في السلطة منها، وكانت ملائمة كونها تُغطيّ القبيلة حيثما انتقلت. وفي تطور آخر كان لا بد من تجسيد الآلهة على الأرض لتحمي القبيلة.

(2)

ومع استقرار الآلهة على الأرض في هيئة تماثيل بدأ استقرار الإنسان، واختصاص القبائل بالأرض، وتكوين المدن، بحساب أن الآلهة هي مصدر الحق في السلطة، وأنها مصدر الحماية، والأمن، والعطاء، ودفع الشرور، ويترتب على هذا: الاستقرار بجوارها للتمتع بالحماية من جهة، ولحماية هذه الآلهة من الغرباء، من جهة أخرى، وفي مرحلة تالية تطورت التماثيل فأصبحت تحتاج إلى معابد، وكهنة وسطاء بينها، وبين شيخ القبيلة، وبين الرعايا كافة، ومع الاستقرار بدأ بناء المدن، وبدأ الإنسان يبني حضارات تصمد أمام الزمان، وهكذا تجاورت القبائل في المدن، وتعددّت مراكز القوى مرة أخرى، فكان لا بد من إسناد السلطة إلى الأمير؛ ثم إلى السلطان، ثم إلى الملك الذي يستمد الحق في السلطة من الآلهة التي تعددّت، وتنوعت بأشكال مرعبة (آلهة الغضب، والعواصف)، وبإشكال جميلة (آلهة الحب، والجمال) وتنوعّت مواد صنع الآلهة من التمر، إلى الصلصال، إلى الحجر القاسي. تجد آلهة المدينة المعبودة التي تتقبل بواسطة الكهنة النذور، والأضحيات، ومع كل مرحلة كانت الحاجة تبرز إلى آلهة جديدة بعدّها مصدرًا للحق في السلطة يُصممّها الكهنة، وتبارك الحكام بدورها. هكذا جُسّد الإله إنسانًا في هيئة رجل، أو امرأة، وجُسّد في بعض الأحيان عضوًا من أعضاء الإنسان، ثم نوعًا من أنواع الحيوانات (أبقار، أو تماسيح)، وفي مرحلة لاحقة طوّر (الكهنة، والحاكم) مصدر الحق ليتجسّد بالحاكم نفسه، فيُصبح ظل الإله، وقد تتوحد الإرادتان بإرادة الحاكم، فتصبح معصية الحاكم معصية للآلهة.

وفي مرحلة لاحقة تطورت سلطة الحاكم، ذلك أن الآلهة (عندما يثبت الحاكم جدارته) قد تكلفّه بنشر الإيمان بها في أصقاع الأرض، فولدت الامبراطوريات، وغدا الامبراطور يدفع جيوشه في الاتجاهات كافة إلى حيث تتمكن أن تصل، وإلى حيث تصطدم بجيوش امبراطوريات أخرى، فتتقدم، أو تنكفئ، بحسب إمكانية كل طرف من الأطراف، وتحت ظلال هذه الصراعات الهائلة التي كانت القبائل، والشعوب تتقارب وتختص بالأرض، وتتوحّد ثقافة، وآلهة، ومصالح، وتزداد هذه الجماعات انضباطًا بنواميس، وأعراف وصلت إلى حد متطور من التنظيم في ما أُطُلق عليه بعدئذ، الحضارات القديمة في العراق، ومصر، وفارس، وروما، والصين، واليونان.. وفي مرحلة لاحقة بدأت الأمم بالتشكل على أنقاض الأوضاع التي لم تعد تستطع تلبية حاجة البشرية من أول العشائر، والقبائل، والمدن، والإمارات إلى آخر الامبراطوريات، وبدأت جيوش الامبراطوريات تعود إلى حيث المصدر إذا كان هذا ممكنًا، أو تندمج بالشعوب، والأمم التي ظهرت حيث بدأت السلطة “أو السيادة ” تمتد على أرض الأمة، وشعبها، وبدأ التمايز بين الوطني والأجنبي.. ثم بدأت الدول الحديثة بالظهور، الدول المُحدّدة بحدود جغرافية واضحة، يرتفع عليها العلم الوطني للأمة، وحدود بشرية واضحة حيث يحمل الأفراد جنسية الأمة؛ بما يعني هذا من حقوق والتزامات.

(3)

إن ما تقدم يعنينا في هذا البحث من حيث مُتابعة تطور مُستند الحق في السلطة، ومن ثَمّ؛ الوصول إلى القاعدة الشرعية المُعاصرة التي تُسند إليها الدولة تأسيسًا، واستمرارًا، إذ نُلاحظ أن هذا الحق ليس ثابتًا، وإنما كان مُتغيرًا مع الزمن، ومع تطور المجتمعات البشرية، وهذا يعني أن ما كان يُعدّ مُستندًا للحق في السلطة، في مرحلة، ما، لا يصلح أن يكون كذلك في مرحلة تالية تجاوزت فيها البشرية تلك المرحلة، وأصبح للحق في السلطة مُستندًا آخر، وهكذا…

فالآلهة كانت مُستندًا للحق في السلطة خلال عصور طويلة عاشتها البشرية، وفي مرحلة تالية كان لا بد من تحطيم كثير من تلك الآلهة للانتقال إلى طور حضاري جديد، فهذا ابراهيم الخليل (عليه السلام) يُحطمّ أصنام قومه بفأسه، ثم يقف في أقسى مراحل التحقيق، والاتهام، والتهديد يُقدمّ حجته في شرعية ما فعل عندما سألوه: من فعل هذا بآلهتنا يا ابراهيم؟ فأجاب أسألوا كبيرهم هذا؟… لم تكن إجابة خائف، أو إجابة تهرّب، وإنما كانت حجّة.. وفي صعيد مصر، واليمن، وبُصرى الشام، وتدمر، وبابل العراق، وبلاد فارس، وبلاد اليونان، وروما، والصين.. قامت مدن، وحضارات كان لها آلهتها، وطموحاتها أكثر اتساعًا.. ومع ظهور الديانات السماوية تطوّر مستند الحق في السلطة من الكنس، إلى الكنائس، إلى الجوامع: “ولم يكن اليهود إلا قبيلة لها إلهها الخاص “يهوه”، فحرمّت عليهم النصوص القبلية الموضوعة في التوراة أن يعقدوا أي حلف مع آلهة القبائل الأخرى. فيقولون على لسان إلههم “يهوه”:

“إني أدفع إلى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك. لا تقطع معهم، ولا مع آلهتهم عهدًا”. إن تاريخ اليهود أنموذج يكاد أن يكون كاملًا للدين، بوصفه مصدر وحيد للسلطة في كل العصور السابقة على المسيحية (1).

وبظهور السيد المسيح ولدت فكرة ازدواج السلطة في العقل البشري، عندما قال عليه السلام: “اعطوا ما لقيصر، وما لله لله”.. وقد صيغت أمرًا، ونظامًا للحياة في مجتمع حي … وقد وضع السيد المسيح المؤمنين به في موقف خيار حاسم بين ملكوت السماء، وبين زينة الحياة الدنيا من المال، والبنين. قال عن المال: “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين لأنه، إما أن يبغض واحدًا، ويحب الآخر، وإما أن يُلازم واحدًا، ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال “(2).

(4)

لكن الصراع بين الكنيسة، والدولة (حول المبدأ) لم يهدأ إلا في الفترات التي سيطرّت فيها احدى المؤسستين على الأخرى (وقد ابتدع أنصار الملوك نظرية “العناية الإلهية” التي تُبقي على السماء مصدرًا للسلطة، ولكنها تنكر احتكار البابا للقيام على إرادة الله في الأرض. لتفسح مكانًا للملوك، فتذهب نظرية العناية الإلهية إلى أن إرادة الله توجّه شؤون الناس، وعقولهم، وإرادتهم على وجه غير مباشر إلى أن تُصبح السلطة في يد واحد منهم. فهو لا يكسبها بجهده، ولا يستحقها لأمر خاص به، ولا يتلقاها من أحد من الناس، ولا من الله أيضًا، ولكن عناية الله هي التي وضعته في موضعه. وما دام الملك ملكًا، فليس من حق أحد أن يحّد من سلطته لأن ذلك سيكون تحديًا لإرادة السماء حتى لو لم يعرف أحد كيف أدت عناية السماء إلى هذه النتيجة) (3).

لقد أنتجت تلك الأفكار ذلك النوع الشهير من الملوك الذي يصيح بأعلى صوته، وعلى الملأ: (أنا الدولة) بكل ما يعنيه ذلك من تبعية الأجهزة للملك، فهي أجهزته لتسيّير أمور الرعية (رعاياه).

وبظهور محمد بن عبد الله (ص) تطوّر مُستند الحق في السلطة؛ إذ نسف مرتكز القبلية ومستندها، فقد آخى في المدينة بين المهاجرين والأنصار… “وإن المؤاخاة كانت سببًا مشروعًا للمشاركة في المال، والأرض، وأسباب الحياة، وحفظها”(4).

وفي المدينة، التي تحوّلت إلى دولة، ثم إلى عاصمة للدولة، حيث الحياة المشتركة بين المسلمين، وغير المسلمين تستدعي صوغ نظام اجتماعي، جماعي، في ظل صوغ أول دستور وضعي عرفته البشرية، يقول د. عصمت سيف الدولة عن “صحيفة المدينة”: “.. إنا لنعرف عن تاريخ القوانين الموضوعة: الألواح الاثني عشر في روما (450 ق. م)، وقبلها بقرنين، أو أقل، وضع داركون قانونه في أثينا، وقبله بنحو خمسة عشر قرنًا كان قانون حمورابي، ولكنها جميعًا كانت بالمفهوم الحديث للشرائع قوانين، ولم تكن دساتير، إذ كانت تُنظمّ المعاملات بين الناس، ولم تكن نظامًا للحياة.. (فالصحيفة) وثيقة نظام مجتمع من المسلمين، ومن غير المسلمين على أسس الحياة المشتركة بينهم جميعًا، ومصدر قوتها المُلزمة، واستمرارها، هو قبولها، واستمرار قبولها ممن تنظم حياتهم، و (الصحيفة) تُنظمّ تلك الحياة المشتركة في منطقة جغرافية واحدة هي المدينة، وتُنظمّ المعاملات.. بين (أهل الصحيفة)، فتُشركهم في المدينة بدون تفرقة. ثم تُلزمهم بالدفاع عن المدينة بدون تفرقة، و (الصحيفة) تُقيم على المدينة حاكمًا ارتضاه أهل الصحيفة ليرعى الالتزام بها، ويفرض أحكامها بقوة أهل المدينة جميعًا، على من يخرج على دستورها “(5).

(5)

تقول “الصحيفة”: “.. إن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين. وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولد أحدهم.. لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته.. وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح، والنصيحة، والبر دون الاثم، وأنه لن يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مُضار، ولا آثم، وإنه لا تُجار حرمة إلا بإذن أهلها”(6).

إن قراءة مُتأنية (للصحيفة) تُظهر بوضوح إسناد الحق إلى الجماعة، وإلى العقد (المقبول) من أطرافها كافة، وإلى المساواة بين (المواطنين)، فالظالم ينال عقابه، أيًا كان، والناكل عن العقد يُحاسب أيًا كان، فالسلطة تستمد مُستندها من غائيتها في تحقيق الحماية، والأمن، والدفاع، والتنظيم … يقول الإمام محمد عبده: “هدم الإسلام بناء السلطة الدينية ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد، ولا سيطرة على ايمانه، على أن الرسول (ص) كان مبلغًا ومذكرًا، لا مهيمنًا ولا مسيطرًا.. ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه.. فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير.. وتلك الأمة ليس لها عليهم إلا الدعوة والتذكير والإنذار، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد.. فليس من الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه “(7).

بعد “الصحيفة” بنحو ألف عام “حيث كانت أوروبا في القرون الوسطى تعتمد النظريات التي تسند الدولة والحق إلى التعبير المباشر عن الإرادة الإلهية، وخليفة الله، وهذا الأخير مُشخّص، ومُعتبر كشخص محدد، ومُتفرّد.. واستعملت هذه الفكرة، خلال تطورها الكثير من المعطيات المقدمة بالنظريات القديمة، فمن جهة طورّت أفكار أفلاطون، وأرسطو.. ومن جهة عدّت كل سلطة آتية من الله”(8).

نقول، بعد الصحيفة بنحو 1000 عام بدأت أوروبا تحبو على طريق القانون الطبيعي، والعقد الاجتماعي…، وتبحث عن مستند آخر للحق – غير الملوك – في الأمة، والشعب، وتتفجّر الثورة الفرنسية لتفتح أبواب انعتاق الأمم الأوروبية من دول أمراء الاقطاع، وسلطة الكنيسة “لقد كان هدف النظرية الثورية للعقد الاجتماعي في القرن الثامن عشر تدميّر الدولة الإقطاعية؛ لأنها أرادت إيجاد تبرير نظري لتدمير هذه الدولة.. فعلى الدولة أن تكون كما يريدها البشر، أو أكثرية الناس الأحياء في المجتمع”(9).

وبدأت الدولة الحديثة بمفهومها المعاصر تظهر في أوروبا، حيث الأمة، أو الشعب مصدر كل السلطات كما تقول الدساتير.

 

هوامش ومراجع:

(1) د. عصمت سيف الدولة – العروبة والاسلام – مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الأولى – صفحة (193).

(2) المصدر السابق- صفحة (199).

(3) المصدر السابق – صفحة (212).

(4) المصدر السابق – صفحة (591).

(5) المصدر السابق – صفحة (62-63).

(6) المصدر السابق – صفحة (60-61).

(7) المصدر السابق – صفحة (239-240) من رسائله إلى رشيد رضا عام 1902.

(8) رادومير لوكيل – الدولة والحق- مصدر سابق- صفحة (199).

(9) المصدر السابق – صفحة (203).

الوسوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق