اقتصاد

نكتة مريرة على هامش إمبراطوريات صنعها المال الحرام

عندما وجد “أحمد. ب” نفسه -فجأة- وجهًا لوجه أمام أحد عناصر الشرطة في ساحة المرجة، وسط العاصمة دمشق، استدار بوجهه، وحاول الفرار بما يحمل بين يديه في الاتجاه المعاكس، لكن عنصرًا آخر كان على بعد أمتار قليلة، أمسك به، واقتاده الاثنان إلى سيارة حديثة، تحركت فورًا نحو أحد مراكز الأمن، لتبدأ معه رحلة تحقيق لم تنته بعد.

جريمة أحمد، أن قوات تابعة لجيش الأسد قصفت بلدته الواقعة على مسافة تسعة كيلو مترات شمال مدينة درعا، جنوب سورية؛ ما دفعه لمغادرتها؛ متنقلًا من مكان إلى آخر، مع أسرته المؤلفة من أب وأم وثلاثة إخوة صغار، حتى استقر المقام بهم في منطقة قريبة من ضواحي العاصمة. اضطر أن يعمل في بيع الدخان الأجنبي المهرب، بهدف أن يؤمّن دخلًا يساعد أسرته المهجّرة في سد مصروفاتها.

لطالما رسم أحمد، ابن الـ 14 سنة، لنفسه مستقبلًا ورديًا، بمشاركة زملاء له على مقاعد المدرسة، وحلم بشهادة علمية تؤهله دخول إحدى الجامعات، لكن مصيرًا آخر كان في انتظاره عندما اصطادته شرطة مدينة دمشق، في حملة كانت تشنها ضد باعة الأرصفة. كانت “الحكومة” تنظر إلى ظاهرة الباعة على الأرصفة بعدّها جزءًا من سوق سوداء محلية، تهدد أمن الاقتصاد “الوطني”، المحكوم من حاشية الأسد.

اليوم، تبدو قصة أحمد بخلفيتها المتواضعة هذه، أشبه بنكتة مريرة، إذا ما قورنت بوقائع أكثر خطرًا، في زمن تغولت فيه الطبقة المستفيدة من شراكتها مع النظام، ولم تبتلع قطاعات الإنتاج والاستيراد والتصدير فحسب، وإنما ابتلعت الاقتصاد وعوائده، واحتكرت السوق. بعد أن فتح الأسد نوافذ البلد لتحالفات مالية، سلطوية، استفادت كثيرًا من غياب الدولة، فأغرقت الأسواق بمواد غير نظامية، قطع تبديل وأدوية وألبسة ومشتقات نفطية، وتحديدًا مادة المازوت، تقدر عائداتها بمليارات الليرات، دخلت جيوبهم وخزائنهم.

يرى الخبير الاقتصادي أحمد سيريس، أن الوضع تعقد أكثر عندما حوّل النظام الطائفي، اقتصاد الدولة، إلى اقتصاد أشخاص، وضعوا أيديهم على قطاعات بأكملها، يديرونها كما تدار ممتلكاتهم الخاصة. وأكد لـ (جيرون) وجود قائمة اسمية، لأكثر من مئة شخصية مالية وتجارية محلية، تدعم الأسد في حربه ضد شعبه، هي من تحرك الاقتصاد، بعد أن مكنها من السيطرة عليه، مكافأة على اصطفافها إلى جانبه.

وتقول وزارة الاقتصاد في حكومة النظام إن الاقتصاد السوري تعرض لاختلالات جوهرية غير مسبوقة، إذ سجل ـ خلال الحرب ـ تراجعًا في كثير من المؤشرات الاقتصادية، وازداد التراجع حدة مع تطورها.

لكن تجاهل الدور المؤثر لفئة تسرح وتمرح -اليوم- بين أروقة الوزارات، وعلى مقربة من القصر الرئاسي، وداخل مديرية الجمارك، يكشف تفاصيل اللعبة التي تمارَس بمعزل عن الأضواء. فقد اعترفت الأخيرة: أن الرسوم التي حصلتها، خلال الشهرين الأخيرين، تبلغ نحو 46.5 مليون ليرة فقط، بينما وصل حجم الغرامات غير المحصلة، بقضايا محققة، في الفترة ذاتها، تتعلق بالفئة المذكورة، نحو 3.5 مليار ليرة تقريبًا.

تشير معلومات متطابقة، إلى أن حلفاء الأسد، قد استفادوا أيضًا، من تسهيلات مغرية قدمها لهم، للاقتراض من المصارف الحكومية الستة، قدرت مبالغها -وقتئذ- 2011/ 2012 بنحو 265 مليار ليرة، يحجمون اليوم عن تسديدها.

ويحل القطاع المصرفي في الترتيب بعد قطاع النفط، ضمن قطاعات الاقتصاد الرئيسة التي تضررت، كما تقول حكومة الأسد، بسبب العقوبات الأوروبية، وعدم توافر قنوات خارجية لتوظيف السيولة الفائضة لديه بالعملات الأجنبية، وتوقف عمليات التحويل، ووقف المصارف العالميّة جميع العمليات العائدة لسورية، مهما كان نوعها ومصدرها، وامتناعها من التعامل مع المصارف المحلية.

ويعتقد الخبير المصرفي، سيف الدين الخالد، أن المبالغ المقترضة هذه، تمثل في الواقع تتمة المشهد المسكوت عنه؛ لأن وزارة الاقتصاد تتجاهلها وتحجم عن الخوض فيها، لحساسية ملفها، وحساسية العلاقة التي تربط المتورطين فيه بالحلقة القريبة من رأس النظام.

وبحسب معلومات مسربة، فقد ورث المصرف العقاري في أثناء إدارة محمد مخلوف، خال الأسد الابن، عشرات القروض لأشخاص تبين بعدئذ أنهم استجروها بأسماء وهمية، لا وجود لها في الواقع، تبلغ قيمتها مليارات الليرات.

ومن اللافت -كما قال الخالد لـ (جيرون)- أن معظم المقترضين لهم الكلمة الفصل في الوقت الراهن، بكل القضايا المتعلقة بشؤون الاقتصاد. وقد استمر النظام في تقديم التسهيلات لهم، على الرغم من امتناعهم علنًا عن تسديدها، مع أنها حُولت كما اعتقد إلى دولارات، حين كان سعر صرف الدولار لا يتجاوز 50 ليرة. وبعملية حسابية بسيطة، يدرك المرء حجم الربح الذي تحقق لهم، من فارق سعر صرفه، الذي وصل في بعض الأحيان إلى 700 ليرة.

وكانت المصارف الحكومية، قد أوقفت في عام 2012 منح القروض، عندما وصلت مخاطر الإقراض درجة عالية، بعد أن تمكنت الحلقة المقربة من الرئاسة، سحب معظم سيولتها المالية، في شكل قروض كادت أن تتسبب بإفلاسها.

ويرى الخبير الاقتصادي، محمد الزعبي، أن الهدف مما جرى بات مكشوفًا. وأن كل الأموال التي قدمها نظام الأسد لحلفائه المحليين، إنما كانت مكافأة لهم على مواقفهم المؤيدة لسياسته القمعية.

وأضاف لـ (جيرون): هؤلاء هم من يحتكر اليوم السوق، ويتحكم بتوفر أو عدم توفر المواد الضرورية التي يحتاجها المواطن، وبالسعر الذي يحددونه، من دون أي إشراف حكومي، حيث زادت -على سبيل المثال- أسعار الوقود بنسبة  56 في المئة، والخبز 40 في المئة، والغاز المنزلي  45 في المئة، وقال: إذا أخذنا في الحسبان تدهور الإنتاج المحلي، وتراجعه، وأضفنا الخسائر التي مُني الاقتصاد بها نتيجة هذا المال المهدور، ويقدر بالمليارات، لم تعد حكومة الأسد قادرة على توفير ما يحتاجه المواطن من مواد استهلاكية وغذائية؛ فاعتمدت على أثرياء الحرب، إلى جانب الواردات الإيرانية والروسية المموّلة بالقروض والتسهيلات المالية الخارجية.

اليوم يدفع ضحايا الحرب التي يشنها الأسد ثمن لجوئهم للاقتصاد غير الرسمي، من أجل أن تستمر حياتهم. بينما تدفع البلاد ثمن سيطرة شركاء الأسد على الاقتصاد الرسمي، وإدارته بالشكل الذي ينمي مصالح إمبراطوريات صنعها المال الحرام.

الوسوم

مقالات ذات صلة

إغلاق