في جوابٍ للكاتب المعارض، ميشيل كيلو، عن سؤال سفير بلد أجنبي: “تُرى، هل ستنجحون يومًا في الحدّ من عنف النّفس السورية؟” اقترح كاتبنا “تشكيل لجنة خبراء دوليّة للتحقيق في الجرائم السورية خلال الأعوام العشرة السابقة للثورة، فإنْ كانت أكثر من جرائم مدينة نيويورك خلال عام واحد؛ قبلنا بلجنة دوليّة تعيننا في تحرير السوريين من العنف المتأصّل في نفوسهم”.
غير أن السيد السفير انزعج من الردّ، بحيث “لم ينهِ هذا الجواب حديثنا وحده، بل أنهى علاقة الرجل بي منذ ذلك اليوم”؛ يُضيف ميشيل. ولكنْ، ما الذي كان يريد السفير سماعه؛ ليقتنع بأن العنف ليس متأصّلًا في نفوس السوريين؟ ثمَّ، ما السبيل لتقديم البراهين والأدلّة والوثائق والحقائق كي يقتنع السفير، ويقتنع معه مختلف السفراء الأجانب، بأن الشعب السوريّ ليس عنيفًا في الطبع والتكوين والميول؟
لقد حاول كثير جدًا من السوريين، كتّابًا وفنانين ومفكّرين وصحافيين وناشطين سياسيين، وأفرادًا وجماعات -ذكورًا وإناثًا- من الناس أجمعين، أن يشرحوا ويوضّحوا ويبيّنوا ويبرهنوا أننا لسنا طلاّب حروب ودم، بل نحن ندفع عن أنفسنا طغيان السفّاحين المفترسين الحاكمين منذ نحو خمسين عامًا إلى اليوم، ولكنْ… عبثًا.
ظلتِ المحنةُ الكبرى بأنَّ علينا -نحن السوريين- على الطالع والنازل، وفي كلّ مكان، وكلّ لقاء، وفي إثر كلّ سؤال يُوجَّه إلينا، من سائق سيارة الأجرة إلى عابر السبيل، إلى البائع الجوّال.. وليس انتهاءً بالوزراء والسفراء؛ أن نشرح ونعيد، ونبرهن وندلل، على أننا مسالمون، أخلاقيّون، وحضاريون، وعريقون…إلخ، وأننا مظلومون، مقهورون، مسلوبو الحرية والعدل والكرامة، نكافح لاستعادة ما سُلب منّا..
وهي محنة لا تقتصر على الأجانب، بل نعاني منها مع العرب أيضًا، من البلدان المختلفة -بما فيها تلك المجاورة المتداخلة جغرافيًّا- ومع كبار المثقَّفين والمتعلّمين منهم -بمن فيهم الذين كانوا زوّارًا لسورية، أو مقيمين فيها لعقود- كما مع عموم الناس، بمن فيهم المطّلع على ما يجري، أو الأميّ البسيط المتابع عَرَضًا.
وإذا كان السفير الأجنبي قد سأل ما سأل عن زمرة الدم الشريرة التي تجري في عروق السوريين، فإنّ ثمة عربيّ -منخرط في الشأن العام، أي: لا يعيش على كوكب آخر- سألني بعد ست سنوات من التغريبة السورية: “أريد أن توضّح لي بالضبط، بِمَ أساء إليكم الأسد؛ حتى قمتم بالثورة عليه؟” سألته: “تقصد ما الذي لم يُسئ به إلينا؟!” قال: “لا، لا. أريد أن تحدّد لي ما الذي أساء به؟” عندئذ، رحت أنظر إليه طويلًا غير مصدّق، إلى أنْ لاحظتُ جديَّته في السؤال، فاكتفيت بالقول: “لا شيء”.
وفي الواقع، يزداد اعتقادي رسوخًا -بعد كلّ ما ارتكبه الطغيان الحاكم من مسالخ بشرية بحق السوريين قبل وبعد الثورة- بأن محنتنا الكبرى مع العالم، المؤثّر والفاعل، هي في كنه نظرته إلينا وإلى قضيّتنا، وموقفه منّا ومنها، وتعامله معنا ومعها، ويمكن أن يُوجزها المثل الدارج مع تغيير بسيط “فيلٌ، ولو طار وحلَّق” على مرأى من أعينه المجرَّدة، ومراسلي وكالات أنبائه، وأقماره الصناعيّة، وما خفي من طرائق ووسائل تقصّيه للحقائق، وجمع المعلومات عنها.