ابتسامة عمار تنتزعك من ألمك وحسرتك ما إن تقع عيناك عليه، هذا الفتى ذو الاثني عشر عامًا، وهو راقد في سريره مبتور الرجل، ينظر إلى زواره نظرة مفعمة بالأمل، يمازحونه فيبادلهم دماثة تأخذ بالألباب، يسألون عن حاله، فيحمد الله ويقول إنه بخير، وأن ما يهمه أن أهله بخير، هو لا يعلم أن معظم أهله قضوا في قصف طائرات الموت. اعتاد هو وأهل قريته أخبار الموت، فلا أحد متيقن من أنه سيبقى لليوم التالي، وكل عدة أيام تحصد الطائرات مزيدًا من أرواح الناس في سلسلة من القرى، لا وجود لمسلحين فيها، إنما فقط لأنها محاذية لقرى تختلف عنها عقديًا، سياسة ممنهجة منذ أواسط السبعينيات بالتضييق عليهم في سبل الحياة حتى يضطروا للهجرة منها، وفي عام 2011 تحولت إلى سياسة قتل بالجملة، طائرات تحوم وتقصف بلا هوادة، ذنبهم الوحيد أنهم يصرون على تحمل كل المعاناة التصاقًا بأرضهم ومسقط رأسهم.
عمار كان يفطر صباحًا مع أسرته وبعض الزوار من الأقارب والمعارف، وثمة أطفال في ساحة الدار يزينون فضاء الموت بآمال الحياة، اعتادوا هدير الطائرات، واعتادوا أن يسمعوا بعدها صرخات الموت وعويل الثكالى، ليهرعوا بعدها لإنقاذ من بقي فيه رمق من حياة، فجأة حدث انفجار أصم الآذان، وتعالت كتلة لهب وغبار؛ حتى أصبحت الرؤية مستحيلة، وبدلًا من الركض باتجاه الآخرين، كان الآخرون يركضون باتجاه بيتهم، شعر أن شيئًا من جسده قد تناثر حوله، وأنه عاجز عن الحركة، خلال وقت قصير كانت سيارة تعبر به القرى البائسة نحو مستشفى متواضع، بترت رجله وبدأت رحلة لملمة ما تبقى منه.
أما أحمد الطفل ذو الأعوام الخمسة، فلا يخفي نزقه من السرير، لم يفقد طرفًا، لكن جراحًا تكشف عن عظامه الطرية، وتوجع القلب، تتوزع جسده الغض، نلاطفه فلا يلقي بالًا لنا وجسده مكسو بالضمادات، يحدثنا والده عن القصف الذي طالهم، وأفقدهم أهلًا وأحبة، يتحدث عن الأمر وكأنه أمر معتاد ومتوقع، في قرية انشغل أهلها على الدوام بتأمين الحد الأدنى للحياة، فقط ليستمروا.
مشهدان بالتأكيد هما ألطف من عشرات الآلاف من المشاهد، على الرغم من فداحتهما، أطفال تحت القصف، قتلى وجرحى وفي مخيمات التشرد، وغرقى في بحار غادرة، مشاهد صريحة لموت معلن لشعب ملً الذل والفقر، لم تبدأ فصولها منذ سنوات، بل منذ نصف قرن. ربما في همجية الموت الراهنة، لقي أطفال معدودون الاهتمام من وسائل إعلام عالمية، للتعمية على التقصير العالمي إزاء جريمة قل نظيرها في تاريخ الإنسان.
وإن كانت الأقدار ألطف مع مأساتيهما، إذ تيسر لهما ما لا يتيسّر بعضه لغيرهما، إذ يعالجان في مشفى القوات المسلحة في الرياض بعد إخلائهما بطائرة خاصة من تركيا(1)، ويبقى الألم فظيعًا، الفتى الذي تقبل عاهة مستديمة في جسده كيف يصحو على موت أمه وبعض أخوته وأهله وجيرته، والطفل الذي لا يدرك سبب حمم الحقد الذي أنزلت بجسده كل هذه الجراح العميقة. يبدأ وعيه بالنمو وجسده مليء بالشظايا.
القرى المتحاذية في ريفي إدلب وحماة، والتي تحاشت معظم الفصائل المسلحة الوجود فيها أو الانطلاق منها، لم تنج من قصف يومي، ولا من عشرات المجازر، ذنبهم انهم رفضوا هجرة الأرض على الرغم من حرمانهم أبسط حقوق الإنسان في التعلم والعمل والأمن والأمان طيلة عقود. سياسة لا تختلف عن سياسات التهجير والتوسع والاستيطان الإسرائيلية إلا بكونها أقسى وأكثر تدميرًا وقتلًا بما لا يقارن، سياسة اكتملت في السنوات الأخيرة، مع استقدام عشرات الآلاف من الشعوب القريبة من بحر قزوين، أعدادهم تفوق يهود الفلاشا بعشرات الأضعاف. ليقتلوا أبناء البلد ويحلوا محلهم.
إن مأساة الطفولة في المشهد السوري لا تعني أن بقية المآسي هي أقل إيلامًا، لكنها مأساة واضحة لا يمكن تسويغها على أي محمل سياسي أو أيديولوجي أو حتى عسكري، دون أن يكون الذي يسوغها أنه مثل القتلة متوحش وهمجي، والذين يعرضون عنها ويصمتون إزاءها وخاصة المقتدرون الذين بإمكانهم إيقاف هذه المآسي، هم أيضًا شركاء فيها، إن لم يكن دورهم فيها هو المحمل الرئيسي لتنفيذها. مآس كثيرة تكررت عبر التاريخ، ومنها مآس معاصرة في ظل وجود منظمة الأمم المتحدة، ومزاعم الوصاية الديمقراطية على العالم، والحساسية المفرطة إزاء حريات هامشية بدلًا عن محاربة الاستبداد والقمع. مآس حصدت أرواح الناس بمئات الآلاف.. على الرغم من هولها، هي أقل من مأساة الطفولة وحدها في سورية.
(1) الطفلان عمار وأحمد يعالجان في مبنى كبار الزوار في المشفى العسكري، بمبادرة من الأمير تركي بن طلال بن عبد العزيز، الذي يشرف منذ سنوات على مبادرة (نلبي النداء)، هذه المبادرة التي قدمت الكثير من العون المادي والصحي والمعنوي للمدنيين داخل وخارج سوريا طوال السنوات الماضية.