حينَ هبطتُ من فتحةٍ لزجةٍ بينَ فَخذَي امرأةٍ؛ عرفتُ -في ما بعد- أن اسمها “أمّي”، وجدتُ نفسي وسطَ جمهرةٍ فريدةٍ من النّسوةِ اللائي يقفن تماثيلَ، فاغراتٍ أفواههنَّ لدرجة ظننتُ معها أنَّ أطفالًا مثلي سيخرجونَ من كلِّ فيهٍ! حينئذ لم أصرخ، وعرفت بعد ذلك، أنَّ هذا ما جعل الجميعَ يرتعدُ خوفًا، لم أقصد إخافةَ أحد، لكنّني كنتُ مشغولةً بتأملِ التماثيل المضحكةِ والمكانِ الغريب.
وقبلَ أن أتفحّص المكان جيّدًا ركضت إحداهنَّ نحوي وقالت: “الحبل.. الحبل”.. وتهافتت عليّ النسوة، فقد كان الحبل السريّ ملتفًّا حولَ عنقي الطازجَ، كمشنقة.
مشنقة؟!. أتدركونَ معنى أن تولدوا وحول رقبة واحدكم مشنقة؟! مشنقة مشدودة حول عنق، وجمهورٌ بعيونَ واسعة، يتأملك الكلُّ وينظر إليك بانشداهٍ، وكأنك نجمٌ من نجومِ السينما.
لم أمُتْ. كانت تلك، كما أخبروني بعد عمرٍ، معجزةُ المعجزات. حين بدأتُ الكلام، سألتُ أمّي السؤال الذي أقامَ القيامة: “ماما.. هل كنتِ تريدينَ قتلي شنقًا؟!”… “يا ناكرةَ الجميل” قالت، “يا قليلةَ الأدب والتربية، أسمعتِ يومًا عن أمٍّ تشنقُ أبناءها؟! وهل نسيتِ كلَّ ما عانيته لأنجبكِ وأربّيكِ؟!”
لم تشفني تلك الإجابة الغاضبة، لم تشفني أبدًا.
في المدرسة، علّموني أنَّ بلدي هي أمّي الثانية، وحين ماتت والدتي التي أنجبتني، أُفهِمتُ أنَّ بلدي هي أمّي الأولى والأخيرة.
– وما البلد يا آنسة؟!
– البلد هي التي ربتكِ وعلمتكِ ووو
– مممم، ولكن ما البلد؟!
– ما هذه الأسئلة الغبية؟! آآآ.. البلد هي دولتك التي فتحت لك المدارس والمستشفيات والأسواق والحدائق.. وال.. وال…
– ولكن يا آنسة، لا حديقةَ في حيِّنا!
– أووووف.. كفى ثرثرةً الآن.. وانطلقي إلى الباحة.
انطلقت إلى الباحة، ثم إلى المدرسة الإعداديّة فالثانويّة فالجامعة، فالوظيفة فالشارع، وأدركتُ أنَّ مَن ولدَ مشنوقًا سيبقى مشنوقًا إلى الأبد، سواءَ التزمَ الصمت أم نطق، وأن تُشنقَ لسببٍ وجيهٍ خيرٌ من أن تشنقَ بلا سبب.. وبخاصّةً إن كانَ الشّانق هو أمّك.! أمّي التي حينَ مرضتُ أودعتني المستشفى المجاني.. صحيحٌ أنني لم أحصل على الرعاية اللازمة، لو لم أستدِن ذاك المبلغ وأدفعه، ولكن هذا تفصيل غير مهم.
أمي التي حينَ تعلمت فتحت لي أبواب الجامعات المجانية، صحيحٌ أنني لم أتخرّج إلا بعد أن استدنتُ ذاك المبلغ ودفعته للدكتور “س” والدكتورة “ع”، كي يعطوني علاماتي المستحقّة، ولكن هذا -أيضًا- تفصيلٌ غير مهم..
أمي التي حين طلبتُ عملًا بشهادتي، جادت عليَّ بالعملِ في تنظيفِ المنازل والأدراجِ، وعلّمتني كيفَ أستعمل تلك الشهادة في تلميع البلور.. وهذا كذاك تفصيلٌ غيرُ مهم..
أمّي التي عندما أدركتُ أنني إنسانٌ وله حقوق، صرخت في وجهي بصوتِ رئيس المخفر: “يحقُّ لكِ الالتزام بالصّمت”
“أمّي… أميييي.. أميييييييييي” كنتُ أصرخُ كلّما جاد عليَّ المحقّق بالعبوس، وكلّما جادت عليَّ أكفُّ السّجانين بالصفعات، والجلداتِ وال.. وال… وهوَ ما كنتُ أصرخُ بهِ بعدما نلتُ ” حرّيتي” وعدتُ أمشي في الشوارع -كأيّ شخصٍ- وأتلقّى من “أبناءُ أمّي” ما أتلقّاهُ من الشتائم والبصاقِ والنّعوت.. وال.. وال…
“عاقَّة” هو النّعتُ الأشهر الذي التصقَ بجلدي حتّى صارَ منه، وهو الاسم الذي سُمِّيتُ بهِ، حتّى نسيتُ أيَّ اسمٍ آخر حملته سابقًا.
إذن فلأقل كلمتي، ثمَّ أرحل.
على الحدود الفاصلةِ بينَ أمّي وبقيّة الأمهات، أمسكني عسكريٌّ وقال: “سترحلينَ إلى غير رجعة.. ولكن على طريقتنا” وهذا ما حصل.
في الليلةِ السّابقةِ تمامًا لشنقي. حاولتُ تذكّر حقوقي، تذكّر كينونتي، تذكَر اسمي السابق، لم أتذكّر شيئًا سوى فتحةٍ صغيرةٍ لزجة بين فخذّي امرأةٍ عرفتُ فيما بعد أنَّ اسمها “أمّي”.. وقفتُ ونظرتُ من شقوق صغيرةٍ جافةٍ جدًّا بينَ صفائحِ حديدِ الباب، كان قبالتي أبواب حديدٍ كثيرة، تلتمعُ من فتحاتها الصغيرة الجافة، حدقاتٌ كثيرةٌ.. حدقاتٌ أدركتُ -في ما بعد- أنّها لأخواتٍ عاقّاتٍ مثلي، يتساءلن أسئلتي الغبيّة ذاتها:
“أمّي هل تريدين أن تقتليني شنقًا؟!”
” وما البلد يا آنسة”
” ومن نحن الآن؟!”
” وهل تشنقُ الأمُّ أبناءها؟!”.
دمشق/ آذار/ مارس 2017