أبحاث ودراسات

الثورة السورية بعد ست سنوات: الجريمة مستمرة من دون عقاب

المحتويات

مقدّمة

أوّلًا: الأسد الأب يُدشّن عصر التردي

ثانيًا: الابن يتابع ما بدأ الأب

ثالثًا: سياسات رعناء

رابعًا: الدولة العميقة والدور الوظيفي

خامسًا: الثورة الحتمية

سادسًا: إسقاط نظام كامل

خاتمة

 

 

مقدّمة

انطلقت في سورية قبل ستّ سنوات حركة شعبية سلمية، تُطالب بإصلاحات، وبالحدّ من تغوّل الأجهزة الأمنية في حياة المواطنين، وتعامل معها النظام بعنف مطلق، فتحوّلت بسرعة إلى ثورة، كاشفة الكم الهائل من المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي راكمها نظام أسرة الأسد في سورية، خلال حكم امتدّ إلى نحو خمسة عقود، مشكلات يؤكد حجمها أن الحياة السورية لا يمكن أن تستمر مع استمرار النظام نفسه على سدّة الحكم.

 

أوّلًا: الأسد الأب يُدشّن عصر التردي

بعد انقلاب عام 1963، غيّرت المجموعة العسكرية التي استلمت الحكم في صلب الدولة السورية ومؤسّساتها السيادية، ومهّدت الطريق لسيطرة المؤسسة العسكرية/ الأمنية على مفاتيح السلطة في سورية، وبُعيد استلام حافظ الأسد السلطة في عام 1970، بدت واضحة للعلن تلك التغييرات العميقة في هيكلية السلطة، بدءًا من التمكين المقصود لسيطرة ضباط محدّدين ينتمون عصبويًا إلى الطائفة العلوية على أعلى المراتب في الجيش السوري وفي الاستخبارات على اختلاف أنواعها، مُبعدًا عددًا كبيرًا من الضباط السوريين الوطنيين الذي ينتمون إلى طوائف مختلفة من المواقع الحساسة في الجيش والأمن، مرورًا بتمكين أبناء الريف في السلطة وتهميش أبناء المدن، ثم محاولة تهميش الطبقة الوسطى الحاملة للمجتمع، وليس انتهاءً بمحاولة تطييف الدولة ومؤسساتها.

وتحوّل حزب البعث (الحاكم نظريًا) والحكومة (المُعيّنة دائمًا) إلى أدوات بيد ضباط الأمن والجيش العصبويين، وصارت المناصب الكبرى من نصيبهم، وطيّفوا الوزارات والإدارات العامة والمناصب، وحتى المنح الدراسية الجامعية، الداخلية والخارجية، وصارت أوراقًا توزعها أجهزة الاستخبارات على المرضي عنهم من الناس، واستحوذ رجال الأعمال المقربون من الضباط على معظم الصفقات التجارية والسياحية والخدمية، وعلى مناقصات الدولة، بالقوة ومن دون وجه حق، وتراكمت الثروات في أيديهم، ووزعت الدولة الأراضي والسيارات والمزارع على الدوائر الصغيرة المحيطة برجالات السلطة، لشراء ولاءاتهم، وانتشر الفساد، المالي والإداري والأخلاقي، كما توسّع القمع السياسي بجميع صوره، ومُنع الإعلام الحر، وتأليف الأحزاب، وزاد قمع المعارضين، حيث طوردوا وسجنوا، وعذّبوا وقتلوا، وباتت سورية من الدول الأكثر فسادًا وقمعًا للحريات في التصنيف العالمي طوال عقود.

 

ثانيًا: الابن يتابع ما بدأ الأب

عندما استلم بشار الأسد السلطة في سورية، توريثًا عن أبيه، وبتغيير عاجل للدستور، لناحية عمر رئيس الجمهورية، لتتمكن قيادة البعث من ترشيحه للمنصب خلفًا لوالده، وانتخابات شكلية، متسرعة وغير مراقبة، حصل فيها على نسبة 97.27 في المئة من أصوات الناخبين، حاول الوريث الإيحاء بأنه صاحب مشروع أكثر انفتاحًا من مشروع والده، وساهم الغرب في رسم صورة له توحي بأنه تربية غربية مُنفتحة مُتفهمة، وأنه سيكون ضامنًا للحريات السياسية ومُطلقًا للحريات الفكرية، لكن هذه الصورة تهشّمت مع أول امتحان حقيقي له، وسرعان ما تبيّن أن الفرق بينه وبين أبيه كمّي وليس نوعيًّا، وفي مراحل لاحقة، تبيّن أن الأسوأ ينتظر السوريين في عهده.

بعد استلامه الحكم وأدائه القسم الدستوري عام 2000، حدّد الأسد ملامح السياسة الداخلية والخارجية لسورية وأولوياتها، ووعد بإصلاحات على الصعيد الاقتصادي والسياسي، لكن سرعان ما تبخّرت جميع وعوده، وخاصة المتعلقة بالسياسة الداخلية، وتذرع بالضغوط الخارجية التي تعرّضت لها سورية، وبأنها عائق أمام تنفيذ أي إصلاح سياسي، داخلي وخارجي. فيما رأت المعارضة حينذاك أن بنية النظام المعقدة أشدّ استعصاء من احتمال درجة صغيرة من الإصلاح، وأن أيّ تبدّل طارئ في تكوينها سوف يسفر عن كسور وصدوع وانهيارات.

في عام 2007 فاز الأسد مرة ثانية في استفتاء شعبي بولاية دستورية جديدة مرشحًا وحيدًا لحزب البعث الحاكم بنسبة 97.62 في المئة من أصوات المستفتين، بزيادة طفيفة على النسبة التي حصل عليها في ولايته الأولى، على الرغم من أن المعارضة السورية بجميع أطيافها، اليسارية واليمينية، قاطعت الاستفتاء، كما أن شرائح هائلة من السوريين لم تكن تعنيها هذه الانتخابات.

غيّر الأسد الابن خلال السنوات العشر الأولى من حكمه معظم رجالات الحرس القديم الذين كانوا مساندين لأبيه، وطالت التغييرات رجالات الجيش والأمن، ومافيات الدولة، الاقتصادية منها والإدارية، وهيمن على هذه المفاصل جدد مُحدَثون، قليلو خبرة، لا ضوابط تقليدية تحكم عملهم وممارساتهم وتطلعاتهم، وبقي معهم الأشد بأسًا وعنفًا وولاءً من رجالات الأسد الأب، ليصبح الفريق الجديد بؤرة عنف وفساد خارجة على المألوف.

عمّ الفساد في جميع مؤسسات الدولة السورية، بدءًا من الوزارات وصولًا إلى أصغر مكتب مختار في أبعد قرية، وتجذرت فيها الطائفية والمحسوبيات والمصالح، أكثر كثيرًا مما كانت عليه في عهد الأسد الأب، ونخرت البيروقراطية الجسد الإداري السوري، وبات الهم العام آخر مشاغل المسؤولين مهما صغرت مسؤوليتهم، وتطيّف 90 في المئة من الوظائف العليا المؤثرة في الدولة، وفي الجيش والأمن والاستخبارات، وفي وزارات مفصلية، من مثل التعليم والإعلام والمالية والعدل والاتصالات، فضلًا عن أغلبية المؤسسات الإنتاجية والخدمية التي لا تحتاج إلى مهارات خاصة، فصار في الدولة السورية جيش من المسؤولين والموظفين غير الأكفاء من طائفة واحدة.

تخلى الأسد عن وعوده، وتبنّى أولويات أخرى، فالإصلاح الداخلي الذي وعد به بات مُلغى نتيجة الظروف الإقليمية والضغوط الدولية، وأعطى أولوية لتوفير “الأمن والأمان” وفق خطاباته، كما تغيرت تحالفاته وفقًا للظروف الجديدة التي واجهتها سورية، وتبدلت سياساته الاقتصادية في محاولة لإيقاف تدهور الاقتصاد السوري.

 

ثالثًا: سياسات رعناء

على صعيد السياسة الخارجية مثّلت السنوات الأولى من تسلّم الأسد للسلطة في سورية تحديًا كبيرًا له، وكان يأمل في أن يكون لسورية دور إقليمي كبير ودور عربي كبير، لكن، وعلى عكس ما كان يتمنى، فقد تصاعدت المخاطر على سورية، وشهدت في عام 2005 عزلة دولية لم تشهدها في تاريخها، وباتت العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا في أسوأ حالاتها، فتوالت العقوبات الأميركية، وزادت كمًا ونوعًا، وتوترت العلاقة مع أوروبا إلى حدود القطيعة، خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، واتهام بعض الأطراف اللبنانية والدولية للنظام السوري بالضلوع في هذا الاغتيال، كذلك توترت علاقة سورية بجارتها الشرقية (العراق) بعد اجتياحه من جانب الولايات المتحدة  وإسقاط النظام فيه، واقتراب الجيوش الأميركية من الحدود السورية، واتهام دمشق بدعم المقاتلين العابرين إلى الأراضي العراقية؛ كذلك توترت علاقة سورية سياسيًا مع الدول العربية ذات الوزن الإقليمي من مثل السعودية ومصر.

سعى الأسد لفتح نوافذ أخرى لدخول الهواء إلى سورية، مقابل النوافذ التي أُغلقت، فطوّر علاقة سورية بإيران سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا إلى درجة التحالف الإستراتيجي، ومد يده إلى أعداء أعدائه الغربيين، فأقام علاقات جيدة مع كوريا الشمالية وفنزويلا وغيرهما، وفي الوقت نفسه سعى لإقامة حلف استراتيجي متسرّع ومتهوّر مع تركيا، ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية والعراقية علانيةً، وحاول الإيحاء بأنه يسعى لترسيخ فضاء عالمي مُقاوم يمتد من الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية، وأنه يُكرس بلده “عاصمة” للممانعة وللمقاومة.

تمنّى الأسد أن تتحسّن علاقة بلاده مع الولايات المتحدة وأوروبا، خاصة بعد تسلّم الرئيس الأميركي باراك أوباما السلطة، ونهجه نهجًا جديدًا تجاه سورية يعتمد الحوار بدلًا من الأوامر المباشرة، وخطت العلاقة السورية- الأوروبية خطوات نحو الأمام، وزارها أكثر من رئيس أوروبي على رأسهم عرّاب النهج الجديد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، كما زارها عدد كبير من المسؤولين الأميركيين، غير أن العلاقة السورية- الأميركية استمرت تُراوح مكانها على الرغم من مرور نحو سنتين على اتّباع أوباما سياسته الجديدة مع سورية، بحجة أنها ما زالت لا تؤدّي ما هو مطلوب منها في المنطقة عمومًا، كما استمرّت العلاقة مع أوروبا في أردأ أحوالها نتيجة “تمرد” النظام السوري وعلاقاته المشبوهة مع إيران.

على الصعيد الاقتصادي والتنموي وضع الأسد سلسلة قوانين وتشريعات اقتصادية ومالية، لم تُسفر إلا عن نتائج سلبية، أدت إلى زيادة الفقر والفساد، وزيادة العبء على المواطن، مقابل انتفاخ جيوب جديدة لمحدثي النِعَم المقربين من دوائر النظام، منها تحرير الاستيراد، واتباع نظرية (اقتصاد السوق الاجتماعي) البعيدة عن النهج الذي كانت سورية تتبعه طوال حكم أبيه، وافتتاح سوق للأوراق المالية (البورصة)، والسماح لشركات التأمين والبنوك الخاصة بالعمل والاستثمار بعد أن كان عملها ممنوعًا منذ قبض البعث على السلطة عام 1963. وفي المقابل، زادت معدلات البطالة وأحزمة الفقر (30 في المئة من السوريين دون خط الفقر خلال 2000- 2010)، واستأثرت (القطط السمان) بموارد البلاد، ورُفع الدعم عن عدد من المواد وخاصة المحروقات، وأثّرت المقاطعة والعقوبات الاقتصادية الأميركية في قطاعات اقتصادية حكومية كبيرة، من مثل الطيران والصناعة والمصارف وقطاع التكنولوجيا، وانخفض إنتاج سورية من النفط إلى النصف تقريبًا خلال السنوات العشر الأولى من حكمه، نتيجة الاستجرار الجائر والمخزون المحدود، ولم يتحقق الحلم السوري بالانضمام إلى الشراكة السورية- الأوروبية على الرغم من موافقة الاتحاد الأوروبي على توقيع الشركة، بسبب رفض سورية للشّقّ السياسي المرفق بالاتفاقية.

أما السياسة الداخلية، فلم تحظ إلّا باهتمام بسيط من الأسد خلال سنوات حكمه العشر الأولى، فعلى الرغم من أنه سمح للصحافة الخاصة بالعمل بعد أن منعها حزب البعث عشية استلامه السلطة، وافتُتحت عشرات المحطات الإذاعية الخاصة، وصدرت عشرات المجلات والصحف، إلّا أن جميع الإعلام المسموع والمرئي كان محظورًا عليه بثّ الأخبار السياسية، ما عدا تلك التي ترد من الجهات الأمنية الوصائية، كما أن الحكومة السورية لم تمنح أي موافقة لمطبوعة دورية سياسية باستثناء صحيفتين لمقربين من السلطة.

قانون الأحزاب الذي وعد به الأسد بداية استلامه السلطة لم يصدر، وبقيت الأحزاب الوحيدة المسموح لها بالعمل هي أحزاب (الجبهة الوطنية التقدمية) وجميعها تلتزم مبادئ البعث، وتعمل تحت راية النظام، وبقيت الحياة السياسية والحزبية غير الرسمية محظورة، ومنعت منظمات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان من العمل، وعندما صدر متأخرًا عام 2011 كان صورة عن سابقه مع بعض التغييرات الشكلية التي لا ترفع يد الأجهزة الأمنية عن هذه الأحزاب.

كذلك، فإن قانون الإعلام والمطبوعات الذي صدر في عام 2001، كان أسوأ من سابقه، وزاد من العقوبات على الصحافيين، والتضييق عليهم في عملهم، وبقيت وسائل الإعلام تحت رحمة السلطات، واستمر قمع الناشطين الحقوقيين والسياسيين، كما لم تُحلّ مشكلة السوريين الأكراد، خاصة مسألة الحرمان من الهوية.

 

رابعًا: الدولة العميقة والدور الوظيفي

أنشأ حافظ الأسد نواة “دولة عميقة” متجذرة، عبر مجموعة ترتيبات نافذة داخل النظام السياسي، تتكون من عناصر متعددة منها أجهزة الاستخبارات، والقوات المسلحة، والقضاء، ومافيا المال التي أصبحت في منزلة دولة داخل الدولة، وعلت مصالحها فوق كل مصلحة، وصارت وسائل تنفيذ سياساتها متنوعة، واستخدمت العنف والترهيب والقمع والتخويف والقتل، وتحكمت في الدولة، ونهبت الثروات، وساهمت في تخلّف البلد ومحاصرته فكريًا وأيديولوجيًا، وحاولت تدمير بنيته المجتمعية، وعممت ثقافة الخوف والانتهازية. فهذه الدولة العميقة قوية جدًا وهشّة جدًا في آن، إذ لا تحمل بذاتها مقومات عيشها واستمرارها، وغير قادرة وحدها على فرض سورية دولةً إقليمية مهمة تنبع قوتها من ذاتها، فكان لا بدّ له من الاستعانة بحامل أكثر قوة وكفاءة؛ فكان أن حمّل سلطته دورًا وظيفيًا مرغوبًا فيه من أكثر من طرف، على رأسها “إسرائيل”، وبعض الدول الكبرى، فعقد هدنة مشهودًا لها مع إسرائيل، وطوّر علاقاته بصورة واضحة مع روسيا والصين، وعرض خدماته على الولايات المتحدة، لمقايضة بقائه “الأبدي” في السلطة مقابل أي دور. وقد كشف ابن خال الأسد، الملياردير رامي مخلوف، في مرحلة مبكرة من الثورة، عن عمق العلاقة ومدى ارتباط وجود نظام الأسد بـ “إسرائيل”. وقد ساهمت هذه التفاهمات غير المعلنة بالفعل في استمرار نظام الأسدين طوال خمسة عقود.

في هذا السياق، يمكن استرجاع دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 بضوء أخضر أميركي- إسرائيلي، ونأي الأسد الأب بنفسه عن مواجهة إسرائيل إبان غزوها لبنان صيف عام 1982، وبعد حرب تموز/ يوليو 2006؛ كذلك يمكن استرجاع حرب الخليج الثانية في عام 1990، حيث وضع القوات المسلحة في خدمة المشروع الأميركي الهادف إلى تدمير العراق، فضلًا عن هدوء جبهات القتال مع “إسرائيل” وعدم إطلاق رصاصة واحدة في اتجاهها طوال أربعة عقود ونيّف.

جاء الأسد الابن ليتسلّم الدولة العميقة التي خلّفها له والده، والتي استمرت بأعمدة جديدة، مع احترام الدور الوظيفي الدولي لنظام أبيه، الدور الذي أرادته “إسرائيل” وغيرها. وبات على المعارضة السورية وأصحاب الثورة مهمة مُعقدة تتمثل بخلع هذه الدولة العميقة، والتي بوجودها، لا يمكن الحديث عن أي حلول، سياسية أو تفاوضية.

أظهرت الثورة السورية حقيقة وجوهر نظام الأسد، بصفته نظامًا مافيويًا وظيفيًّا لا يعرف غير (التشبيح) في كل مفصل من مفاصل الحكم، مهمته بناء دولة أمنية حتى لو على بحر من الدماء، وتفريغ مضامين مؤسسات الدولة، وشلّ المجتمع المدني وتهميشه، وتعميم الفقر والجهل، وإفقار البلد، وتدمير مقومات الجيش الوطنية، والإمعان في الإفساد، وتخريب العمل الثقافي والفكري والسياسي، وتعزيز التجهيل، وتجفيف منابع الفكر والإبداع؛ فبنية كهذه تمنع وجود أي تهديد له، وتمنع أيضًا، وربما هو الأهم، وجود أي تهديد لإسرائيل، ومن ثمّ تسمح له بأن يؤدّي وظيفة “المحتل بالوكالة”.

هذا الدور الوظيفي، في الأغلب، دفع المجتمع الدولي للسكوت على كثير من الانتهاكات الفاضحة التي ارتكبها النظام في سورية ضد الشعب، كحرب الإبادة العشوائية، واستخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليًا، وارتكاب مئات المجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

 

خامسًا: الثورة الحتمية

منذ عام 1970 صارت سورية دولة القهر والتسلط، ودولة الرئيس الواحد الأبدي، ودولة حكم الأسرة، والفساد وغياب الحكم الرشيد، واستمر هذا الأمر نحوًا من خمسين عامًا، وكان العام 2011 هو عام الانفجار، حيث امتلأت البطون بالذل والقمع، فانطلقت “ثورة الحرية والكرامة”.

شجّعت الثورات العربية السوريين على إشعال ثورتهم، وساهم الاحتقان والقمع الذي يشعرون به في تحطيم مملكة الخوف والصمت، فثاروا ضد النظام السياسي في بلدهم، وضد التغوّل الأمني والفساد والتطييف، وضد الدولة الأمنية، ولم يثوروا لسبب ديني أو طائفي، إذ طالبوا في البداية بالعدالة والإصلاح، على عكس النظام الذي حاول الإيحاء من الأسابيع الأولى للثورة بأن ما يجري هو حرب بين أكثرية سنّية وأقلية علوية، أو بين إرهابيين ودولة.

لم يتردد بشار الأسد، ومنذ الأسابيع الأولى للثورة، باستخدام أقصى درجات العنف ضد المدنيين العزّل، وعندما شعر أن قوته وهمية أمام قوّة الانتفاضة الشعبية العارمة، انتقل إلى استخدام الأسلحة الثقيلة، البرية والجوية، وليبدأ أعنف حرب وأبشع حرب يشنّها حاكم على شعبه في القرن الأخير، فاعتقل مئات الآلاف، وقتل خلال ست سنوات نحو مليون سوري وفق بعض التقديرات غير الرسمية، وشرّد نحوًا من أحد عشر مليونًا منهم، كما تسببت حربه في إعاقة نحو مليونين ونصف من السوريين، معظمهم من المدنيين ومن جميع الأعمار، ودمّر البنى التحتية، والمشافي والمدارس والمساجد، ونهبت ميليشياته الطائفية المنفلتة التي أسسها أملاك السوريين، واستخدم من دون تردد السلاح الكيماوي، من دون أن يُواجَه بموقف دولي حاسم وصارم، إذ حماه الدور الوظيفي الذي رسمته له “إسرائيل” وشاركت فيه بعض الدول الأخرى.

استعان الأسد بحلفائه وحلفاء أبيه، وفتح لهم أبواب سورية على مصاريعها، ورحّبت إيران بهذا الاستنجاد، وأرسلت خبراء وضباطًا عسكريين، ودرّبت ميليشياته ومقاتليه، وتغلغلت في كل أنحاء سورية عبر أذرع عسكرية عديدة، وصل عددها وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أكثر من 35 تشكيلًا عسكريًا طائفيًا مواليًا لإيران ويأتمر بأوامرها.

أطلق الأسد سراح السجناء الإسلاميين والسجناء الجنائيين، وهم في الأساس ممن كانوا يعملون في العراق وغيره، ولهم علاقات سابقة مع النظام، ثم ساهم بصورة غير مباشرة في إيصال السلاح إلى الناس العاديين في مرحلة مبكرة، لعسكرة الثورة، وسعيًا منه لتوفير الأجواء الموحية بأن حربًا أهلية تجري، وأن إرهابًا يضرب بلده، وأن المعارضة مجموعة من المتشددين المنبوذين العملاء للخارج، كما استنفد جميع طاقات الدولة، وسخّر موجوداتها وقدراتها في خدمة حربه.

تحوّلت الانتفاضة على حكم آل الأسد، خلال عام واحد، من ثورة سلمية إلى حد كبير، إلى حرب شاملة مُدمرة، وظهرت جهات فاعلة، محلية وإقليمية ودولية، ذات دوافع وأهداف متباينة، وحاول الأسد اختراق المعارضة السورية، ونجح في كثير من الحالات، فصارت مجزأة ضعيفة، مشكوكًا في ولاء بعض أطرافها للثورة وأهدافها، وتمرّدت أحزاب كردية على الثورة بدعم من النظام. وفي لحظات الخوف من الانهيار، أدخل إيران وميليشياتها، ووقع فيما بعد عقدًا للحماية مع روسيا، وسمح لها بإنشاء قواعد عسكرية جوية وأرضية، ولم يكترث بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وبقية التنظيمات الجهادية التي انتشرت في سورية كالهشيم، التي يُشكك بعض المراقبين في ارتباطها العضوي بالنظام.

عمل النظام على تدعيم حجة عدم وجود بدائل له، فهو لم يُشوّه سمعة البدائل المحتملة فحسب، أو الشخصيات الأكثر احترامًا، بل قمعها أو قتلها حيث استطاع، أو أصدر أحكامًا بالإعدام ضدها، أو أخفاها في أقبيته وفي غياهب سجونه ومعتقلاته، وقال للمجتمع الدولي “للأسف لا يوجد بديل”.

 

سادسًا: إسقاط نظام كامل

ظلّ مصير الأسد في أي مفاوضات أو حلول مُحتملة هو العقدة، فالنظام متمسك بعدم التغيير، ويصر على الاستمرار بالسياسات والعقلية والمفاهيم نفسها، وبالشخوص نفسهم، من أسفل القاعدة إلى رأسها، وهو أمر لم يعد مقبولًا ولا منطقيًا بعد حصيلة كارثية للحرب التي شنها على شعبه، وأسفرت عن سقوط ما يدور في فلك المليون من السوريين، معارضة وموالاة، وهدم أكثر من 3 ملايين وحدة سكنية وتجارية، وتشريد نحو نصف الشعب السوري.

في المقابل، يعتقد الموالون للنظام أنهم بالدفاع عنه سيضمنون بقاء مؤسسات الدولة الأمنية والمدنية كما هي، وسيضمنون تاليًا بقاءهم وبقاء جيش من أتباعهم الذين اختارهم النظام بعناية من الأفراد الأكثر طائفية وفسادًا، ويضمنون عدم طرد أي منهم، لا الآن ولا في المستقبل. ويتماهى إعلان فيينا بصورة أو بأخرى مع هذه الرغبة، وكان بيان جنيف وحده هو الأكثر ملامسة بصورة معقولة لهذه القضية الحساسة، حيث شدد على ضرورة تغيير الشخوص وإبعاد كل من هو غير مؤهل، وخلق توازن بين مكونات المجتمع، ما يعني طرد عدد كبير جدًا من القائمين على مؤسسات الدولة قبل أي خطوة لبناء سورية الجديدة.

خَبِر السوريون (مؤسسات الدولة) وعرفوها قبل الثورة وخلالها، وأدركوا أنها جزء من خطوط الدفاع عن مصالح النظام ورجاله، ووسائل لقوننة فسادهم وسرقاتهم، وأدوات لتعميم الفائدة على شرائح وطوائف بعينها، وشدّدوا على أنها جزء لا يتجزأ من المنظومة التي أنجزوا ثورتهم ليغيّروها.

لم تستطع ستّ سنوات من الثورة أن تُغيّر شيئًا في عقلية النظام ونهجه وسياسته، ولم يستطع مليون من الضحايا أن يهزّ شعرة في ضميره، وما زال مُتمسّكًا بالسلطة قادرًا على تثبيت وجوده حتى لو بات وجودًا مُهلهلًا.

لم تنجح محاولات المعارضة السورية طوال خمس سنوات بتفتيت النظام وإسقاطه، لا بالسياسة ولا بالمفاوضات ولا حتى بالمواجهات العسكرية؛ ولم تُفدها الجامعة العربية ولا الأمم المتحدة ولا “الدول الصديقة”، ذلك لأن التحالفات التي عقدها النظام خلال خمسة عقود متعددة ومتراكبة، سياسية واستخبارية وطائفية ومالية ونفعية وأيديولوجية. وفي الأغلب، لن يتفتت النظام ويسقط إلا بتفتيت الدولة العميقة المُتجذرة التي يديرها.

 

خاتمة

لا شك في أن إسقاط النظام السياسي السوري وحده لا يكفي، ولن يُغيّر كثيرًا من واقع السوريين، بل يجب استئصال النظام العسكري الأمني الطائفي مرة واحدة وإلى الأبد، والقضاء على الدولة العميقة، وأن يشمل ذلك استعادة مؤسسات الدولة من رجال النظام عبر عملية (غربلة) واسعة النطاق، تشمل غير المؤهلين مهما كانت انتماءاتهم، وكل من تسلّق بسبب المحسوبيات والانتماء والطائفة، ومن بعدها يمكن الحديث عن الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية.

على المعارضة السورية، وحتى الموالين، أن يعوا حجم الكارثة التي تنتظر سورية ما لم يُسقطوا الدولة الأُسريّة الطائفية العميقة، التي لن تتردد في نشر الدمار في كل مدينة، والموت في كل حيّ، والفوضى في كل بيت، وستقود سورية إلى الفناء، ليكتب التاريخ أن حفنة مارقة من الأشخاص أنهت واحدة من أهم حضارات المتوسط.

 

مقالات ذات صلة

إغلاق