مقالات الرأي

النظام يحتفظ بحق الرد

منذ حرب تشرين “التحريرية”، وفي الأصح التحريكية، عُرفت الجبهة السورية – الإسرائيلية بأنها أكثر الجبهات العربية الأخرى هدوءًا، على الرغم من أنها -جميعًا- ظلت “هادئة”، باستثناء جنوبي لبنان -طبعًا- التي “هدأت بدورها بعد عام 2000 (باستثناء لحظة خطف الجنديين وحرب 2006).

في الغضون أوقفت عمليات المقاومة الفلسطينية عبر هذه الجبهة، منذ ذلك الوقت، وامتنع النظام عن الرد على الطلعات الجوية الإسرائيلية المتكررة التي تنتهك سيادة أجوائه وأراضيه، بل إنه امتنع حتى عن رد الاعتداءات الإسرائيلية على بعض الأهداف في الأراضي السورية، مكتفيًا بالإعلان عن الاحتفاظ بـ “حق الرد” في الزمان والمكان المناسبين، وبدعوى عدم الانجرار وراء مخططات إسرائيل.

بيد أن هذا السلوك الذي سلّم بوجود إسرائيل في الجولان، من الناحية العملية، ظل من الناحية الدعائية يستخدم فلسطين بزعم أنها قضيته “المركزية”، وظل يستخدم المقاومة (الفلسطينية ثم اللبنانية)، لخدمة أغراضه الخاصة، أولًا، لتسويغ تسلطه على الشعب السوري، وحرمانه إمن حقه في الحرية والكرامة والديمقراطية. وثانيًا، للإمعان في السيطرة على موارد البلد والتحكم بها. وثالثًا، لتعزيز مكانته الإقليمية إزاء الدول الأخرى باستخدامه قضية فلسطين، والمقاومة، ورقةً في المساومات الدولية والإقليمية. ورابعًا، للمزايدة على الأنظمة العربية الأخرى، أو لابتزاز الدعم المالي منها؛ كما شهدنا طوال العقود الماضية من حكم العائلة الأسدية.

بناءً على ذلك؛ فقد اعتاد السوريون هذا السلوك الإسرائيلي ولا ردّ النظام، وفي هذا الإطار يمكن عد أكثر من 22 اعتداء على السيادة السورية، في شكل طلعة جوية، أو ضرب لأهداف معينة، منذ تدمير إسرائيل ما عدّته بمنزلة محاولة بناء مفاعل نووي في دير الزور (2007)، بادعاء أنها تستهدف شحنات أسلحة إلى حزب الله.

هكذا، فإضافة إلى الغارة الإسرائيلية التي حصلت قبل أيام، مستهدفة مواقع في تدمر، يمكن تعداد كثير من الغارات الجوية والضربات الصاروخية التي نفذتها إسرائيل ضد أهداف في الأراضي السورية، في 13 و22 شباط/ فبراير 2017، و8 و10 و13 و14 و18 أيلول/ سبتمبر 2016، وفي 9 شباط/ فبراير 2016، ثم في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2015 (أدت إلى مصرع القيادي في حزب الله اللبناني سمير القنطار في جرمانا). وفي 27 أيلول/ سبتمبر، و28 كانون الثاني/ يناير من عام 2015. وفي العام 2014، نفذت اعتداءين في 5 أيلول/ سبتمبر، و23 حزيران/ يونيو. وفي عام 2013 شنت إسرائيل ثلاثة اعتداءات في 13 تموز/ يوليو 2013، و21 أيار/ مايو 2013 و5 أيار/ مايو 2013، وفي 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012.

تحاول إسرائيل من خلال هذه الاعتداءات فرض سياستها في عدة جوانب، أهمها:

أولًا، التمسك بهضبة الجولان، وتأكيد عدم الانسحاب منها.

ثانيًا، تأكيد قدرتها على الردع، وعلى ذراعها الطويلة، سواء إزاء سورية أو إزاء “حزب الله”، وتأكيدها أن نقل شحنات أسلحة خط أحمر لن تسمح به.

ثالثًا، فرض ذاتها لاعبًا إقليميًا في تقرير مستقبل سورية، ولا سيما بما يتلاءم ورؤيتها لما تعدّه أمنها القومي.

رابعًا، تأكيد وجودها إزاء الأطراف الفاعلين الأخرين في الملف السوري، ولا سيما روسيا، الأمر الذي حققته في التنسيق العالي معها على الصعيد الأمني، وفي الأراضي السورية. وبحسب المحلل الإسرائيلي أليكس فيشمان، فإن “إسرائيل تهاجم في سورية لا لتمنع قوافل السلاح الإيراني إلى حزب الله فحسب، فإسرائيل تستعرض حضورًا في سورية، كي توضح للروس أيضًا، أن أي تسوية في سورية لن تكون بدونها أساسًا.” (“يديعوت”، 19/3).

لكن تحليل فيشمان يضيء نقاطًا مهمة، تثير الشبهات بشأن مزاعم الرد السوري الذي حصل. وفي رأي فيشمان، فإن “إطلاق إسرائيل صاروخ حيتس الذي اعترض الصاروخ السوري المضاد للطائرات. هذه عملية لم تستغرق أكثر من ثوان معدودة: من اللحظة التي يشخص فيها غرض باليستي يطير باتجاه إسرائيل، وحتى إطلاق صاروخ الاعتراض. أحد المقاييس المركزية في اتخاذ القرار هو ألا يعرض إطلاق الحيتس للخطر طائرات سلاح الجو في ساحة الاعتراض. ما يعزز الفرضية بأن الصاروخ السوري أطلق نحو هدف ما، ولكن هذه لم تكن الطائرات القتالية لسلاح الجو. فهي لم تعد هناك. كقاعدة، إطلاق صاروخ سوري مضاد للطائرات من طراز اس 200 المحسن الذي باعه الروس للسوريين أخيرًا، هو أمر غريب. فصاروخ أس200 هو صاروخ ثقيل، ثابت لمدى 300 كيلو متر، لا يستهدف اعتراض طائرات قتالية مناورة. نشر خبراء عسكريون روس أخيرًا أن إسرائيل تستخدم منظومات قتالية إلكترونية “تعمي” تماما البطاريات السورية، وتشوش منظومات الاتصالات فيها. مما هو معروف، فإن الروس أنفسهم لم ينقلوا للسوريين أي معلومة عن الهجوم الإسرائيلي. هكذا؛ بحيث أنه ليس واضحًا إلى أي هدف أطلق السوريون صاروخ الاعتراض. في سلاح الجو يفحصون الآن ما الذي أسقطه صاروخ حيتس في واقع الأمر. من غير المستبعد أن يكون الحديث يدور عن حطام كبير لـ اس 200 الذي تفجر في الجو بعد أن أخطأ هدفه، وليس واضحًا من في سورية أصدر الأمر. من غير المستبعد أن يكون قرار إطلاق الصاروخ لم يُتخذ في مكتب الرئاسة، ويحتمل أن تكون القيادة العسكرية السورية تبنت إطلاق الصاروخ بأثر رجعي. لم يكن للجيش الإسرائيلي إخطار مسبق عن إطلاق الصاروخ السوري نحو إسرائيل؛ فعلى مدى سنوات طويلة تنتظر الطواقم التي تستخدم حيتس 2 الاختبار في الزمن الحقيقي، وقد نجحوا فيه. فالحديث يدور -هنا- عن إنجاز تكنولوجي كبير للصناعات الإسرائيلية أيضًا؛ فقد اعترض حيتس 2 جسمًا باليستيًا في مدى أكثر من 100 متر خارج حدود إسرائيل. وتوجد هنا رسالة واضحة للإيرانيين لليوم الذي يقررون فيه إطلاق صواريخ شهاب على إسرائيل” (“يديعوت”، 19/3/2017).

هذه الإطالة من الاقتباس متعمدة؛ لتوضيح أن إسرائيل تقصدت تجربة صاروخ “حيتس”، وما تعدّه “القبة الحديدية”، وأن ثمة شك حول من أطلق صاروخ اس 200، وأن سورية باتت بمنزلة حقل تجارب لأسلحة روسية وإسرائيلية، في ظل التنسيق المشترك بينهما؛ وهو ما أكده بيان الخارجية الروسية، بخصوص هذا الحدث، بخلاف ما تبجّح به بشار الجعفري. والمعنى أن سياسة الاحتفاظ بـ “حق الردّ” مازالت هي المنهج… بخلاف ما يجري في رد النظام على طلب السوريين الحرية والكرامة والمواطنة.

مقالات ذات صلة

إغلاق