لم تزل جملة “التاريخ رواية وقعت حقًا، أما الرواية فهي تاريخ كان بإمكانه أن يقع” التي قالها الأخوان غونكورد، الروائيان الفرنسيان، تختصر الفرق بين عالمين مختلفين: عالم التاريخ الجاف الذي غالبًا ما يُكتب بأقلام الأقوياء والمنتصرين، وعالم الرواية الرحب الذي يؤنسن الأحداث ويعيد صياغتها بطريقة مختلفة تقول ما لا تستطيع كتب التاريخ قوله.
وبين التاريخ والرواية علاقة إشكالية رافقتهما منذ بدء الكتابة ولا تزال. فقد اعتُبر العديد من الروائيين مؤرخين حقيقين، لما حملته “حكاياهم” من تفاصيل كانت أهم وأعمق إنسانيًا من كل ما ذكرته كتب التاريخ عن مراحل معينة في حياة البشرية.
فبينما يسرد التاريخ أحداثًا وأرقامًا تُفقد الإنسان –وهو محورها الرئيس- قيمته الإنسانية، تقوم الرواية بتثبيت تلك القيمة، بل وتضخيمها أحيانًا، في محاولة دائمة للتأثير الأكبر والأكثر فاعلية في المتلقي، من خلال تحويل تلك الأرقام المجردة إلى كائنات حية قادرة على إيصال الأحاسيس والانفعالات الإنسانية المرافقة للأحداث، وكذلك اختلاف الأفكار أو تضاربها أحيانًا، وهو القيمة الحقيقية في عالم البشر.
وبينما ينحصر قرّاء التاريخ في شريحة محددة، تضم المهتمين بهذا المجال الإنساني، أو الطلبة في مختلف دول العالم، إذ يُفرض عليهم في مراحل دراسية معينة منهاج تاريخي محدد ومحكوم بتوجه الحكومات أو الدول، تنطلق الرواية عبر العالم كالريح لتطال شرائح أوسع بكثير، ممن يرتادون عوالمها طواعية، فيصبحون بذلك أكثر قابلية للتأثّر والتلقي.
ربما يكون سؤالنا الملّح اليوم: من سيكتب تاريخنا؟ أو من سيكتب تاريخ سورية مثلا؟ من سيوثّق حقائق ما جرى ويجري الآن؟ ربما سيكون المنتصر في هذه المعمعة العمياء هو من سيملأ كتب التاريخ بالأحداث والتواريخ والأرقام. لكن من الذي سينقل هذا الحجم الهائل من الآلام والرعب والدمار الروحي والجسدي والمادي لهذي البلاد؟
لا شك في أننا بحاجة حقيقية إلى كتّاب وروايات كثيرة، تنقل إلى من سيأتي بعد مئة عام ملامح كارثتنا، علّها لا تموت. وهو ما يمكن أن يُنقذنا من الضياع أرقامًا في كتب التاريخ.
قد تكون الكتابة الإبداعية اليوم، ونحن لا نزال نحترق في بوتقة الواقع اليومي المعاش الذي يزداد اشتعالًا يوما بعد يوم، مهمة شبه مستحيلة، فحجم المأساة والوجع اليومي أكبر من أن يستطيع روائي تفريغه على الورق. وقد يتطلب الأمر سنوات قبل أن يستطيع أحدهم إعادة صوغ التفاصيل المرعبة وتحميلها لشخصيات ورقية تروي تفاصيل الحكاية. لكن ذلك سيأتي يومًا، لأننا جميعًا، البشر، ميّالون إلى أن نثق بالحكايات، أكثر من ثقتنا بما تحمله كتب التاريخ من معلومات، ولا زالت، وستبقى، الروايات عوالم موازية لعوالمنا، وقادرة على فتح المجال لعقولنا وأرواحنا وخيالنا اللامحدود، وهي -كذلك- قادرة على نقل حيوات أخرى تضاف إلى حياتنا لندرك أكتر.
قد تكون الرواية وحدها لقادرة على حمل كل هذا، وهي القادرة على نقل المسكوت عنه في كتب التاريخ، ونقل أصوات الضعفاء والمهمشين والمكسورين أو الخاسرين، كما فعلت، على سبيل المثال لا الحصر، روايات غابريل غارثيا ماركيز وإيزابيل الليندي وغيرهما، عندما ضجّت بأصوات المسحوقين من شعوب أميركا اللاتينية الأصلية، إذ عرّت تلك الروايات “انتصارات الفاتحين” وكشفت النقاب عن ممارساتهم العنصرية والقمعية الدموية، بطريقة لا يمتلك القارئ معها منفذ نجاة أمام التفاصيل الملغومة بشحنة عالية من الإنسانية.
وهو -أيضًا- ما فعلته روايات نجيب محفوظ، خاصة “الكرنك”، في تعرية الواقع العربي المصري واضطراباته الاجتماعية والسياسية، وكذلك فعلت روايات عبد الرحمن منيف، كخماسية مدن الملح التي فتحت نافذة أخرى غير مرغوبة لدى أصحاب السلطة، ويستطيع القارئ أن يطل منها على حقائق وأحداث تقلب كل موازين التاريخ، وتسلط الضوء على المتعبين الصامتين.
أيًا كان المنتصر اليوم في سورية، فإنه سيكتب التاريخ على مقاسه، لكنه لن يستطيع أن يبخّر كل هذه الآلام ويمحوها، إذ ستتكثّف في أرواح وعقول من مرّوا بها أو عايشوها، وستتقطر ذات يوم في روايات تكتبنا، ليدرك هذا العالم يومًا فداحة ما اقترفت يداه.