أجلس في المقهى منذ ساعة، أراقب الناس بدلًا من الكتابة التي أهرب منها كلما استطعت إلى ذلك سبيلا؛ مرة بحجة أن الفكرة لم تتبلور في ذهني تبلورًا واضحًا يسمح لي بكتابها الآن، ومرة أخرى بحجة مزاجي السيئ الذي لا أحب أن ينعكس على القراء، ومرة ثالثة بحجة البحث عن عناصر جديدة، يُمكنها شدّ انتباه المتابعين، ليس لأهمية الموضوع، وإنما لانتزاع الإعجاب منهم، فأنا لا أستطيع العيش دون أن أشعر بفضلي على الآخرين، ومن واجبهم التعبير عن حبهم الكبير لأفكاري العبقرية، فأنا ابن “مُنح القائد الحكيم”، الذي حوّل نعمة الحياة إلى “منحة”، وجعلت ابنه ينتزعها من السوريين متى شاء، المهم أنني هذا الصباح، وجدت ما يكفي من الذرائع الشرعية كي لا أكتب، مكتفيًا بمراقبة الناس، على الرغم من علمي بأن من راقب الناس مات همًا.
لفت انتباهي سوريان يجلسان إلى طاولة غير بعيدة، تسمح لي بسماع بعض ما يقولانه، لأنهما يتكلمان بصوت مرتفع أيضًا. لم أعرف، للأمانة، هل هما من السوريين الجُدد في مونتريال، أم أنهما من القدماء، ولكن ما سمعته دفعني إلى الكتابة الفورية، فقد كان حديثهما يتمحور حول المثل الشعبي الذي يقول: “شعرة من طيز الخنزير مكسب”. لن أتوقف عند السؤال: هل ذكر ذلك حلال أم حرام، وإنما حول مغزى المثل وامتداداته في الحياة الاجتماعية السورية، وخاصة عندما نشاهده يتكرر، في أوساط سورية مختلفة ومتنوعة!
كانت “عطاءات” القائد، بعد تجويع الناس، جزءًا من الخطة التي تفضي إلى “ألوهية” الأسد وأبديته في المجتمع السوري، ولما كان السوريون دون عمر الخمسين لا يعرفون إلا الأسد حاكمًا لسورية، وأنه يجب الاستفادة من “العطاءات” الرئاسية. مَن كان يؤمن بأبدية الأسد، كان يتلقف العطايا بمزيد من الشكر والتسبيح بحمده والخنوع، ومن كان يُشكك فيها وينكرها، كان أيضًا يأخذها؛ لأنه لا غنى عنها، ولكنه يُكرّر، بينه وبين نفسه، وأحيانًا نادرة، في “حاضنته” الاجتماعية الضيقة، المثل الشعبي سابق الذكر، ومع الزمن تحوّل هذا المثل إلى ثقافة شعبية سورية يومية، فندرة الأشياء في سورية الأسد جعلت الحصول على قطعة خشب مرمية في الشارع مكسبًا، يجب العض عليه بالنواجذ، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بمواد غذائية في المراكز الحكومية التي تحتكر حق “العطاء”، فما على المواطن “السعيد” عندئذ، إلا صرف وقته في السفر من مؤسسة إلى أخرى؛ للحصول على علبة سمنة أو علبة مناديل (محارم)، فإذا كان من بين مكاسبه اليومية علبتا مناديل “كلينكس”، وسأله أحدهم لماذا أخذ الثانية، كان يقول: “شعرة من طيز الخنزير أو القرد مكسب”.
كان السوريان اللذان يجلسان غير بعيد مني يتحدثان، كما فهمت، عن سوري حديث الوصول إلى مونتريال، كان يستعيد الثقافة الأسدية في التجول على المؤسسات الاستهلاكية، فقد خصص فراغه، بانتظار دورة اللغة الفرنسية، بالبحث عن الجمعيات الخيرية؛ الدينية أو الأهلية، التي تُقدّم خدمات للاجئ، ومنها بعض المعلبات والخضراوات والثياب والمفروشات، فيأخذ كل ما يستطيع أخذه، بغض النظر عن حاجته وحاجة عائلته، ودون أن يفكر باللاجئين الآخرين. وعندما سأل أحدهما الآخر: لماذا يأخذ ما ليس بحاجة له؟ رد الثاني: يا أخي مكسب…
أقامت الحكومة الكندية دورات للقادمين السوريين الجدد، منها كانت حلقة عن واجبات الكفيل تجاه المكفول. ومن المعروف أن الكفالة نوعان، حكومي وشخصي، عن طريق الأقرباء أو المؤسسات أو الأفراد. وكان من بين الحاضرين أحد السوريين كفله قريب له، فجاء بعد حضوره للندوة التعليمية أو التوضيحية إلى قريبه الكفيل؛ ليعلمه أن له حقوقًا عنده!
لم يكن الأمر مقتصرًا على من جاء إلى كندا مكفولًا، فقد رأيت في رمضان الماضي، في أحد جوامع إسطنبول عائلة سورية، يبدو عليها اليسر المادي، كيف أنها أخذت مخصصات إفطار عائلة أخرى من خيمة قريبة من الجامع، كان يُقام فيها إفطار رمضاني مجاني؛ ولكي تكتمل الصورة، فقد حجز العجوز، وهو رب الأسرة الكبيرة، الكرسي الملاصق له، كي لا يجلس عليه أحد، على الرغم من الازدحام. تفسير هذا السلوك، في أحد جوانبه، أنه ثقافة المجتمع السوري التي كرسها الأسد بجعل أي شيء “مكسبًا”.
امتدت ثقافة “شعرة من طيز الخنزير مكسب” إلى المعارضين، فقد رأيت في إسطنبول سوريين يعتاشون من “منظمات دولية”، تدعم ما يُعرف باسم “منـظمات المجتمع المدني” وناشطوها الذين أصبحوا يُعدّون بالآلاف، وكان بعضهم يأخذ أكثر من راتب من أكثر من جهة، حارمًا غيره من الاستفادة من الأموال المدفوعة من “أصدقاء الشعب السوري”، هذا فضلًا عن فضائح مؤسسات المعارضة السورية ذاتها التي جرى نشر “عطورها الفواحة” في برامج التواصل الاجتماعي المتعددة.
الخلاصة، صحيح أن نظام الأسدين قد أفسد المجتمع؛ من أجل الاستمرار في السلطة، ولكن الصحيح أيضًا، الإشارة إلى مسؤولية المجتمع نفسه في ممارسة الفساد الذي عممه الأسد، وخاصة من يدعي امتلاك وعي مغاير في صفوف الثوار والسياسيين والعسكريين، حتى أن الأوساط الدينية التي يجب أن تكون مُحصّنة أكثر من غيرها بقيمها الدينية، قد أصابها ما أصاب المؤسسات العلمانية، من أمراض “السلطة” الأسدية، وعدّ كل ما يصل إلى مكاتبها وقواها “مكسبًا” أو “شعرة من…..” وهو حقها.
نحن بحاجة إلى بناء ثقافة مغايرة للثقافة الأسدية، وإلا فإن عذاباتنا ستطول.