تبدو مدينة الرقة هذه الأيام، أشبه بمعبر للوافدين إليها؛ ومحطة لنزوح آخر، وهربًا منها خوفًا من اقتحام وشيك، بدت ملامحه تتضح في الأيام الأخيرة. فمع اشتداد الخناق على تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة بدأ سكان المدينة يتلمسون طريقهم إلى خارجها عبر المهربين، في حين لم تنقطع حركة القادمين إليها خلال الأسابيع الماضية، سواء من قدموا من مناطق سيطرة التنظيم في العراق، أو من هربوا أمام تقدم قوات النظام في ريف حلب الشرقي، أم أولئك الذين تضعهم ميليشيا “قسد” في خانة المتعاملين مع التنظيم في أرياف الرقة؛ فتجبرهم على ترك بيوتهم والنزوح منها.
في هذه الأثناء كثّف طيران التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة غاراته العنيفة على مواقع عديدة في الطبقة والمنصورة والرقة والكرامة، وعلى غير المروّج له في “دقة” الاستهداف التي تُنسب إلى طائرات التحالف، فقد أوقعت إحدى غاراته، (الإثنين) الماضية، أكثر من 40 مدنيًا بين قتيل وجريح ومفقود، ثمانية شهداء منهم وُثقت أسماؤهم، ومعظمهم من عائلة واحدة، إثر استهداف مبنى للإطفاء وفرنًا وتجمعًا سكنيًا ومحال تجارية داخل مدينة الطبقة، التجمع البشري الأكبر في الريف الغربي للمحافظة (50 كم غرب الرقة).
استهدف طيران التحالف ليلة الاثنين، 20 آذار/ مارس مدرسة “البادية” في بلدة المنصورة (35 كيلومترًا جنوب غرب مدينة الرقة)، وأوقع ما يزيد على 250 مدنيًا بين شهيد وجريح، معظمهم نساء وأطفال. ومدرسة البادية -هذه- واحدة من مئات المباني المدرسية، التي تؤوي نازحين من مناطق مختلفة، وقد لجأ إليها في الآونة الأخيرة نازحون من الرقة وأرياف حلب الشرقية وحماة وحمص وتدمر.
تأتي هذه التطورات الميدانية وانعكاساتها المؤلمة على المدنيين، في وقت لا تزال فيه المعارك سجالًا بين تنظيم الدولة الإسلامية وميليشيات “قسد” في الريف الشرقي، وحول بلدة الكرامة تحديدًا، التي يمكن أن تكون مفتاح سقوط الريف الشرقي برمته في حال نجحت الميليشيا بالسيطرة عليها.
وكانت ميليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية، العماد الأساسي لتركيبة ميليشيا “قسد” السياسية والبشرية، أعلنت قبل أيام أن الهجوم على الرقة سيبدأ مطلع نيسان/ أبريل المقبل. الإعلان عن تاريخ بدء اقتحام الرقة، الذي جاء على لسان سيبان حمو -لسان حال ميليشيا “الوحدات” – يبدو غريبًا من ناحية إعلانه، وناحية تحديده مدة المعركة التي قدّرها بـ “أسابيع عدة”. كما يبدو الإعلان موجهًا للطرف التركي بالدرجة الأولى الذي يحاول الدخول إلى معركة الرقة، بالتعاون مع فصائل من الجيش الحر، لتحقيق أكثر من هدف.
تسعى تركيا، بعد إغلاق الطريق أمامها عبر منبج، من خلال تفاهم روسي – أميركي تحقق على الأرض؛ برفع ميليشيا “قسد” هناك علم النظام السوري، إلى الدخول عبر تل أبيض، أو رأس العين، وفق إشارات أرسلها الأتراك إلى فصائل سورية متحالفة معها.
دخول قوات سورية معارضة، مدعومة بغطاء عسكري تركي وتوافق دولي، عبر هاتين المنطقتين اللتين تسيطر عليهما ميليشيا “قسد” يعني انتهاء الحلم القومي الكردي المزعوم “روج آفا”، كما يعني مساهمة تركيا وفصائل المعارضة السورية في الحرب على الإرهاب، ما سيؤهلهما إلى دور أكبر في صناعة توافقات سياسية ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية. إلّا أن مجريات السياسة تجري الآن باتجاهات مختلفة.
في السياق ذاته، أعلن متحدث آخر باسم ميليشيا “وحدات حماية الشعب” الكردية، ريدور خليل، أن “روسيا بصدد إقامة قاعدة عسكرية في عفرين، بموجب اتفاق ثنائي، وستساعد في تدريب مقاتلينا”، ما يعني أن هذه الميليشيا أصبحت شريكًا عسكريًا وسياسيًا للروس، بعد أن تحولت إلى قوة أرضية للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، وساعدت في توفير أراض لبناء 3 قواعد عسكرية أميركية في الحسكة وحلب.
هذا الصعود الوظيفي لميليشيا “وحدات حماية الشعب” مقابل إغلاق الملعب السوري أمام لاعبين إقليمين، العرب والأتراك، يرشح الأوضاع في سورية إلى مزيد من التفاقم والاحتقان ويزيد من الهوة بين السوريين، ويزرع بذور صراعات قد لا تنتهي في المدى المنظور.