تبعثر كل شيء حين اختفى فجأة، وعلى نحو لا مثيل له في التاريخ، الصرح الشيوعي الذي كان حتى الأمس يسار العالم، والنقطة المرجعية في تحديد اليسارية. وما كان من هذا الاختفاء إلا أن أزاح الستارة عن فراغ معرفي ومفهومي واسع. فإذا كانت القوى اليسارية تسوّغ لنفسها ولجمهورها سياساتها غير المتسقة بوصفها جزءًا من صراع أوسع بين منظومتين أو معسكرين، تُفهم في إطاره وتكتسب معناها منه، بماذا ستبرر سياساتها اليوم، بعد أن هامت مرجعيتها الأساس عشقًا بالعدو الإمبريالي إلى حد تسمية مجلس الدوما الروسي “البيت الأبيض”، تيمنًا بمقر الرئيس الأميركي الإمبريالي؟
لم تؤسس في الواقع صلابة معرفية كافية لمواجهة مثل هذه الصدمة التي لم تكن متوقعة، وعليه؛ فقد تشتّتتْ اليسارية القديمة إلى يساريات عدة، يصعب أن تنضوي في مفهوم. بالطبع كان ثمة يساريات متعددة قبل الانهيار السوفياتي، غير أنها كانت تحتكم إلى المرجعية ذاتها قربًا وابتعادًا. بعد الانهيار تبعثر المشهد، ثمة يسارية حققت استدارة ليبرالية كاملة توازي استدارة بوريس يلتسين، وصارت ترى في الولايات المتحدة “قاطرة التاريخ”، ويسارية أخرى احتفظت بصورة الصرح السوفياتي معلقة فوق روسيا، على الرغم من أن هذه راحت تغذ السير في اتجاه إمبريالي يحمل من الابتسار ما حمله الابتسار الاشتراكي الروسي قبل نحو قرن من الزمان. وبين هاتين اليساريتين يتوزع طيف يساري.
نستخدم كلمة “يسار” هنا في ما نحن نقول إنها باتت بلا معنى. نستند إلى ما تبقى لها من إيحاء دلالي، لأننا لا نمتلك البديل. مثلًا بماذا نميز اليسار الذي اكتشف أخيرًا أن أميركا تحرر الشعوب، عن اليمين الذي كان دائمًا في الصف الأميركي؟ وبماذا نميز اليسار الذي يرى أن نظام الأسد سد علماني في وجه الوهابية والتطرف الإسلامي، وأن أميركا عدوة الشعوب، عن الاتجاهات الدينية التي ترى في أميركا الشيطان الأكبر؟ ربما يمكن التمييز استنادًا إلى الماضي، وليس إلى حاضر بات بلا مرجعية يسارية.
سيجد المهتم صعوبة في الإجابة عن السؤال: ما المعنى الذي تضيؤه كلمة يسار اليوم؟ من يقول إن اليسارية تعني الاتجاهات السياسية التي تنطلق من مصلحة الطبقات الشعبية، سيجد أن هذا التحديد غائم وإنشائي. ما الذي يخدم -بالفعل- مصلحة الطبقات الشعبية؟ لا توجد إجابة جاهزة اليوم. يوجد طيف من التوجهات التي تشكل رهانات يعسر ضمان نتائجها وسط عالم متداخل بعدد هائل من العناصر المتفاعلة. كل القوى السياسية في الغرب تسعى إلى كسب الشعب عن طريق صوغ برامج تزعم أنها تحقق مصالح الشعب. وما نراه اليوم من تقدم شعبي للتيارات اليمينية واليمينية المتطرفة ناجم، بلا شك، عن قناعة شعبية تتسع بأن هذه القوى تحقق مصالح شعبية.
إضافة إلى أن تعريف اليسارية بأنها السعي إلى التغيير، يفتقد بدوره القيمة التحديدية. يمكن أن يفيد هذا التحديد في التمايز عن القوى المحافظة، غير أن التغيير ليس قيمة إيجابية بذاته، بالاستقلال عن معناه وانعكاساته. ودليل ذلك، البرامج التغييرية “التراجعية” والحمائية التي يكسب اليمين الانتخابات على أساسها في الغرب. لم يعد اليمين “الرجعي” في موقع الدفاع الذي يسمه بالمحافظة ورفض التغيير. ظهر هذا جليًا في أميركا ترامب، وفي بريطانيا البريكس، وفي الصعود اليميني الذي يستهدف الوحدة الأوروبية، وسلم القيم الإنسانية التي تكرست في أوروبا. ولكن السؤال: هل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو خطوة يمينية أم يسارية من زاوية المواطن البريطاني؟ ثم وفق أي معيار نحدد نحن، من غير البريطانيين، يمينية أو يسارية مثل هذه الخطوة؟ من اللافت اليوم في فرنسا مثلًا، أن أحد أهم مرشحي الرئاسة الفرنسية “إيمانويل ماكرون” تقوم حملته على تجاوز مفهومي اليمين واليسار.
في بلداننا التي تخضع فيها الدولة لاحتلال سلالات أو طغم، وتخضع فيها أجزاء من الوطن للاحتلال، يبدو من السهل تحديد اليسار بوصفه العمل ضد الاستبداد والاحتلال؛ لاستعادة حقوق مسلوبة صراحة. غير أن هذه السهولة تتبخر فورًا، مع ذلك، أمام تعقيد وتراكب النظام السياسي المحلي والإقليمي والدولي. أظهرت الثورات العربية مثلًا أن النضال ضد الاستبداد المركب، لا يترافق مع النضال ضد “الاحتلالات”، بل يجمّد هذا النضال، (سبق أن هادن لينين أعداء روسيا في صلح بيرست ليتوفسك بغرض إسقاط القيصر في ما عُرف باسم الانهزامية الثورية)، وهذا فتح الباب أمام ظهور “يساريات” عديدة، تختلف في أولوية الموقف من الاستبداد، أو بكلام آخر، أولوية الحرية. أيهما أقرب إلى اليسار؟
يحتاج مفهوم اليسار إلى معنى لكي يستمر، وتحصيل هذا المعنى يحتاج إلى إجابة عن سؤال: ما معنى التقدم أو التقدمية اليوم؟ وهل يوجد قاسم مشترك عالمي للتقدمية، بمعنى أن يكون التقدم من منظور شعب ما، تقدمًا من منظور الشعوب الأخرى؟
تعليق واحد