مقالات الرأي

في نقد “الثورة”

ركز المفكر السوري الراحل الياس مرقص، في غير موضع من مؤلفاته، على نقد المفهومات، وعدم رفعها إلى مرتبة المقدّس، وعرّف الاستبداد بأنه “رفع النسبي إلى المطلق”، وفي الحال السورية الراهنة تشكّل استعادة هذا التعريف للاستبداد ضرورة ملحة، من أجل فهم الواقع، وبناء تصورات مطابقة، لا تكون أسيرة للغرائزي في تجلياته المختلفة، وأخطرها -ربما- التجلي الغرائزي في الفكر.

وثمة من طالب، وما يزال، بالوقوف مع “الثورة”، سواء أكانت مظلومة أم ظالمة، من دون قيد أو شرط، في حال رفض أي فكر نقدي، يحاول تفكيك مجريات الحدث السوري الذي شهد كثيرًا من التحولات، خلال السنوات الست الماضية، بحيث لم يعد من الممكن الأخذ بعامل واحد، وإغفال العوامل الأخرى، إذ إنه ليس كافيًا، وليس صحيحًا، توصيف الحدث السوري انطلاقًا من العوامل الداخلية، فقد بات العامل الخارجي عنصرًا أشدّ فاعلية في هذا الحدث، وبات مقررًا لتوجهاته، بل –ربما لشكل التسويات المحتملة أيضًا.

ويبدو واضحًا، أقله منذ نهاية 2012، أن الطابع العسكري للمواجهة مع النظام أخذت القوى الإسلامية تهيمن عليه، وهي في معظمها قوى سلفية، وقد أسهمت، أسوة بالنظام، في قمع الحراك المدني الديمقراطي، بل ذهبت أبعد من ذلك، حين عدّ بعضها الديمقراطية كفرًا، وهو ما جاء في تصريحاتٍ لقادة، أو عبّرت عنه لافتات في المدن التي سيطر عليها إسلامويون، ولم يعد خافيًا على أحد أن القوى الإسلامية المسلحة قاتلت فصائل تابعة للجيش الحر، واستولت منها على الأراضي التي كانت قد سيطرت عليها، وراحت تقوم بتحويل ممنهج للحياة الاجتماعية في المناطق التي خضعت لحكمها، من مثل تغيير المناهج التعليمية، واستبدال القضاء المدني بالقضاء الشرعي، واستصدار قرارات تلزم النساء بأشكال محددة من اللباس، وما شابه من قرارات، من شأنها أن تضفي طابعًا إسلاميًا محافظًا، بحسب الرؤية الدينية السلفية.

النظام والقوى السلفية وقفا ضد الحراك السياسي والمدني الديمقراطي، وأرادا تحويل الساحة إلى ساحة صراع في ما بينهما، فالنظام أرادها حربًا على الإرهاب، وليست مواجهة مع قوى سياسية ديمقراطية، يمكن أن تشكل بديلًا عنه، إن سمح لها بالعمل والتنظيم، إذ لا يمكن -آنذاك- وسمها بأنها قوى إرهابية، كذلك أرادت القوى الإسلامية المسلحة احتكار محاربة النظام، وبناء عصبية دينية في هذا الاتجاه، وحشدت من أجل ذلك في حقول عدة، بما فيها الحقل الإعلامي، وخصوصًا الإعلام الافتراضي، حتى باتت التهم جاهزة لكل من ينتقد تلك القوى، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، تهمة الانتماء إلى الأقليات، أو العلمانية، أو الغرب، وما شاكل من تهم، ترمي إلى وضع كل من ينتقد القوى الإسلامية المسلحة بأنها في خانة معاداة الثورة.

بهذا المعنى، تحوّلت الثورة السورية إلى صراع بين نظام غير وطني وقوى إسلامية سلفية غير وطنية، تنظر إلى الصراع بدلالة الصراع الإقليمي بين السنة والشيعة، في الوقت الذي تحوّلت فيه القوى الديمقراطية إلى أصوات هامشية، لا تقدم أو تؤخر في مجرى الصراع الميداني، وفي هذا التحوّل الذي عرفه الحدث السوري، أصبحت الثورة السورية الشعبية إلى صراع على السلطة السياسية، بين قوى تحتكر السلاح، وتأخذ البلاد والعباد رهينة، وتعتمد اعتمادًا مباشرًا على الدول الداعمة لها.

إن مسار العملية السياسية يمضي نحو مخاض ليس بعيدًا عما عرفته الدولتان الجارتان (العراق ولبنان)، مع خصوصية محلية، فالقوى المحتكرة للسلاح، يقودها أمراء حرب من النظام والقوى السلفية، تمضي نحو عملية سياسية تقوم على المحاصصة، وهو أحد السيناريوهات المرجّحة بقوة، في ظل غياب قوى وطنية وازنة، وعابرة للطوائف والإثنيات، خصوصًا أن حالة التهتّك التي أصابت بنية النسيج الوطني تشجع على مزيد من الاستقطاب.

وبالعودة إلى المفكر الراحل الياس مرقص، فإن “الثورة” تحوّلت من فعل تغيير، يفتح المجال لصعود قوى وطنية ديمقراطية، وإعادة بناء الدولة السورية بدلالة المواطنة، إلى مجرد أيديولوجيا تتلطى خلفها قوى مضادة للثورة، وذات أهداف سلطوية محددة، غير معنية بأي تغيير حقيقي في بنية الدولة السورية، بل على العكس من ذلك، فهي ستحوّل وجودها، بوصفها قوى مضادة للثورة، إلى قوى شرعية، عبر التسوية السياسية.

إن نقد “الثورة”، في سياقاتها ونتائجها، وما أفرزته من قوى مضادة، أصبح أمرًا ضروريًا للتمييز، خصوصًا مع تحوّل “الثورة” إلى سيف مسلط على رقبة الفكر النقدي، ومن الضروري التخلّص من هذه الحمولة الأيديولوجية، وفضح دلالاتها السياسية، ومصالح القوى التي تختبئ خلفها، والمصائر البشعة التي ترسمها للوطن السوري، وتفريغه، أكثر مما بات مفرغًا من القوى الوطنية، ومن الكفايات التي لا يمكن أن تجد مكانها ضمن البنية الجديدة التي يشكّلها أمراء الحرب.

وربما آن الأوان لبقايا الوطنية السورية، من أفراد وقوى، أن تبدأ حركة جادة، نقدية وعملية، في تبني مواقف أكثر وضوحًا، وتعريفات أكثر مطابقة للواقع، وعدم الخوف من التهم التي يمكن أن توجه لها، فالفكر النقدي لا يمكن أن يكون إلا فكرًا شجاعًا، وأن الفعل السياسي في ظل الأزمات الكبرى ينبغي له أن يكون جريئًا في طرح المواقف، ومبدعًا في طرح الرؤى والمبادرات.

مقالات ذات صلة

إغلاق