ترجمات

صحيفة فيدوموستي: لم يحن زمن “الصفقة الكبرى” بعد

وصلت العلاقات بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية، في الأشهر القليلة الماضية، إلى أدنى مستوياتها طوال 25 سنة الماضية. وفي الوقت نفسه، لدى كلِّ منهما إجاباتُه عن جميع الأسئلة المتعلِّقة بهذا التدهور، ويعرفُ على من يقع الذنب وما عليه أنْ يفعل. ولكنَّ الإجابات التي يقدّمانها متعاكسة تمامًا. وعلى الرغم من ذلك، يبدو رئيس الولايات المتحدة الأميركية الجديد، دونالد ترامب، مهتمًٌّا بتسوية علاقات بلاده مع موسكو، إذْ سبق له أن غرَّد، في كانون الثاني/ يناير، قائلًا:” أمرٌ جيد أن تكون العلاقة مع روسيا جيِّدة، إنَّه ليس بالأمر السيئ.  البلهاء وحدهم يمكنهم أن يعتقدوا أنَّه أمرٌ سيئ”. ويبدو الرئيسُ مقتنعًا بأنَّ الشراكة مع موسكو ستساعده في تنفيذ أولويات إدارته، على سبيل المثال، في الحرب على “الدولة الإسلامية” وكبح جماح الصين. وبهذا المعنى، لا يختلف ترامب كثيرًا عن أسلافه: بيل كلينتون، جورج بوش – الإبن وباراك أوباما، الذين بدؤوا فترتهم الرئاسية انطلاقًا من الرغبة في تحقيق اختراقٍ في علاقة بلادهم بروسيا، ولكن في نهاية الأمر، ترك كلُّ منهم لخلفه هذا الإرث في حال أسوأ.

خلال ربع القرن الماضي تأرجحت العلاقات الروسية- الأميركية بين توقُّعاتٍ عاليةٍ وكأنَّها تركب قطار الدوَّامة في مدينة الملاهي. ويعود سبب ذلك إلى كونِ الفوارق بين مواقف الولايات المتحدة وروسيا أعمق مما تبدو عليه للوهلة الأولى. ومن الممكن تحقيق اختراقٍ حقيقيٍّ في العلاقات إن راجعت إحدى الدولتين المبادئ الأساسية لسياستها ومصالحها. تعد الولايات المتحدة الأميركية أنَّ تقديمها تنازلاتٍ، كالاعتراف بأنَّ جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق هي “مناطق نفوذ” روسية، والتخلِّي عن التزاماتها الأطلسية، ستعني التراجع عن المبادئ الأميركية وستنزل ضربةً قاصمةً بالعلاقات الأطلسية، ومن ثم، ستقوِّض النفوذ الأميركي العالمي وستزعزع أسس النظام العالمي الحديث. الأمر نفسه ينطبق على روسيا. فمن الواضح تمامًا أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتمتَّع بتأييد أغلبية المواطنين الروس، لا ينوي تغيير موقفه. علاوةً على ذلك، تعتمد شرعية النظام الروسي، أساسًا، على تصوير البلاد قلعةٍ محاصرة، وعلى فكرة بناء دولةٍ عظمى قادرةٍ على شنِّ عملياتٍ فاعلةٍ خارج البلاد، كالحملة على سورية. وبناءً على هذا، لاتتعلَّق مشكلة الولايات المتحدة مع روسيا ببوتين ومحيطه، بل بأُسسِ السياسة الخارجيِّة الروسيِّة.

تبقى المساحة المتاحة لإبرام “الصفقة الكبرى” مقيّدةٌ بمدى تضارب فهم الدولتين لمصالحهما في مجال الأمن وبمدى ضآلة نقاط التماس الأخرى.

جرت العادة في الممارسة الأميركية على تقسيم العلاقة مع كلِّ دولةٍ إلى أربع سلالٍ: الأمن، المسائل الإقليمية، الاقتصاد والمجال الإنساني.

عندما نتحدَّث عن العلاقات الروسية- الأميركية، نجدُ أنَّ مضمون السلَّتين: الأولى والثانية مسمومًا وقابلًا للانفجار، لذا علينا غضُّ الطرف عنهما. أمَّا السلَّتان الثالثة والرابعة فهما فارغتان، تقريبًا، في الوقت الراهن. في عام 2016، بالكاد وصل التبادل التجاري بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية إلى 20 مليار دولار. وكما بيَّنتْ التجربة، لا يمكن رفع هذه الأرقام بإصدار المراسيم وحدها. وفي مجال الثقافة والقيم، يبدو أنَّ المجتمعين: الروسي والأميركي، إمَّا أنَّ بعضهما لا يهتم ببعض، أو أنَّهما يتطوران في اتجاهين متعاكسين. وبالنسبة للنزاعات الإقليمية في سورية وأوكرانيا، تبدو مواقفُ واشنطن وموسكو متباعدةً  جذريًا، لدرجةٍ أصبح من المشكوك فيه أنَّ تقرِّبهما حربُهما المشتركة المفترضة ضدَّ “الإرهاب”. يفهم الطرفان طبيعة “الإرهاب” فهمًا مختلفًا، وينتهجان أساليب مختلفةً تمامًا في الحرب عليه. أمَّا بالنسبة إلى أوكرانيا، فليس لدى الولايات المتحدة الأميركية إمكانية للاعتراف بـ “أحقيَّة” روسيا في شبه جزيرة القرم، وهو ما صرَّح به ترامب نفسه. ولا تستطيع الولايات المتحدة، أيضًا، رفع العقوبات عن روسيا بدون إحرازِ تقدُّمٍ ملموس في مسار تنفيذ بنود اتفاقيات مينسك. في الوقت نفسه، هناك كثير من المشكلات بين البلدين فيما يتعلَّق بالفضاء السبراني، إذ تكاد لا تختفِ من جدول الأعمال اليومي في الولايات المتحدة، – مسألة التدخل الروسي المحتمل في الانتخابات الأميركية، وهي المشكلة المهمة التي تشغل الولايات المتحدة حاليًا. أمَّا الاتفاق بخصوص الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، فدخل دائرة الخطر. يمكن عدُّ كثير من المشكلات الأخرى، فالقائمة تطول، أمَّا حلُّها فيفترض أنْ يكون من مسؤولية العسكريين والاستخبارات- وهي المؤسسات التي تتميَّز بأقلِّ درجة من الثقة، من بين سائر المؤسسات الأخرى، واللتَّان تقفان على خطِّ المواجهة. علاوةً على ذلك، يشكِّل نشر الأميركيين منظومات الدفاع الجويّ وتطوير أنظمة استراتيجيةٍ غير نووية أكبر مصدر للقلق لدى المؤسسة العسكرية الروسية.

في هذه الأوضاع، يبدو أنَّ المهَمَّةَ الملحة أكثر من سواها في اللحظة الراهنة، بالنسبة إلى موسكو ولواشنطن، هي مسالة التفاهم حول جدول أعمالٍ يبحث في إبرام”الصفقة الكبرى” بينهما، وريثما تتوصَّل الدولتان إلى ذلك، عليهما الاهتمام بإدارة المخاطر. في الأوضاع الراهنة تحتاج العلاقات الروسية- الأميركية إلى إدارةٍ نوعيةُ للمخاطر، ولا تحتاج إلى تركيب “أعباء إضافية”جديدة. ويمكن طرح السؤال الجوهري، الآن، ليس في تحسين العلاقات، إنَّما في كيفية إبقائها متوازنةً، بعيدًا عن حافة الصدام العسكري المباشر.

وفي هذا الصدد، يجب أنْ تكون أحد أهم الوسائل على هذا الطريق هي إِعادة قنوات التواصل. بعد مشكلة القِرم، جرَّبت إدارة أوباما جميع الآليات، تقريبًا، للحوار مع موسكو. حينئذ، لم تكنْ تتوافر لدى روسيا الرغبة الجادة في مناقشة كثير من المسائل على ما يبدو. أمَّا الآن، فإنَّ غياب قنوات التواصل بين الدولتين يرفع المخاطر فحسب، ولهذا؛ يجب إعادة التواصل بسرعة، ليس لتكون بمنزلة جائزة تحصل عليها الأطراف لقاء “سلوكها الجيّد”، أو لتكون رمزًا للهدنة، بل لتكون أداةً لخفض التوتر والحيلولة دون نشوب أزمات جديدة. ومن المهِّم هنا ألا يستخدم أيٌّ من الأطراف آلية التفاوض منصَّة لجمع النقاط لمصلحته، أو لتبادل اللَّوم، بدون رغبةٍ في حلِّ المشكلات الحقيقية. ولكي يعمل نظام إدارة – المخاطر في العلاقات الأميركية- الروسية بفاعليةٍ، يجب فصل الأولويات الملحة أكثر من غيرها عن مشكلات ذات أولوية من الدرجة الثانية، ووضع حدٍّ فاصل بين المُمْكنِ والمُراد.

توجد أربعة موضوعات ملحَّة في مجال الأمن بين الدولتين يجب الحديث عنها الآن.

الموضوع الأول؛ عملية القرصنة في المجال السيبراني.

ليس بإمكان الولايات المتحدة الوقوف مكتوفة اليدين تجاه التدخل الالكتروني المحتمل في انتخاباتها، وكذلك تجاه خطر محاولة روسيا التأثير في نتائج الانتخابات في كثير من دول الإتحاد الأوروبي. ومع ذلك، لا يعني هذا أنَّه لا يجب على الأطراف العمل لإيجاد معايير للتصرف في الفضاء السيبراني؛ للحدِّ من الهجمات المحتملة. في هذا الموضوع، يجب أن ينضمَّ إلى هذا الحوار لاعبون كبار آخرون، كالصين مثلًا.

 

الموضوع المهم الثاني هو الحوار بين العسكريين لمنع وقوع حوادث.

خلال فترة الحرب الباردة، أوجدت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي آلياتٍ دقيقةً أسهمت في خفض مخاطر الصدام في مرحلة السلام إلى الحدِّ الأدنى. هذه اللعبة الخطرة قد تؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى وقوع حوادث لا يمكن التنبؤ بعواقبها. على سبيل المثال، في الأشهر الماضية تجري القوات الأميركية والروسية عمليَّاتٍ في سورية، تكونان في أثنائها متقاربتين جدًا؛ مَا يضاعف مخاطر وقوع حوادث. ولهذا بات من مصلحة الطرفين تأكيد قواعد اللعبة القديمة، وعند الضرورة إضافة برتوكولاتٍ جديدة. يتمُّ الآن اتخاذ الخطوات الأولى على هذا المسار: كانت اللقاءات الأخيرة بين رؤساء أركان جيوش روسيا والولايات المتحدة خطوةً في الاتجاه الصحيح، ولكنَّ الأمر بحاجةٍ إلى مزيد من الخطوات.

الموضوع الثالث؛ أوكرانيا.

لا يبدو -حتى الآن-  أن بإمكان روسيا والولايات المتحدة الأميركية التوصل إلى اتفاق حول استراتيجية لحلِّ هذه الأزمة. وهذا يعني ضرورة إعطاء الأولوية لمسألة نزع فتيل التوتر ووقف الأعمال القتالية، ومن ثمَّ؛ البحث عن سبل الخروج من المأزق في إطار اتفاقية مينسك.

وأخيرًا، الموضوع الرابع؛ التسوية في سورية.

من المشكوك فيه أنْ تكون الحرب المشتركة ضد “الإرهاب” ناجحةً في ظلِّ اختلاف أولويات البلدين وانعدام الثقة المتبادلة بين العسكريين. إلَّا أنَّه يجب على الولايات المتحدة وروسيا التعاون على إرساء نظام وقف إطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين، وفي المستقبل التعاون في المباحثات حول الانتقال السياسي.

هناك جوانب أُخرى، إلى جانب الأولويات الأربع، يمكن أنْ تبحثها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا: عدم انتشار الأسلحة النووية، الحيلولة دون وقوع عملياتٍ إرهابية نووية، مستقبل القطب الشمالي، مستقبل معاهدات “ستارت” لتقليص الصواريخ النووية. يمكن، بل يجب مناقشة هذه المواضيع على المستوى التقني، وليس من الضروري رفعها إلى مستوى القيادات. بالطبع، سيكون إحراز التقدم في هذه المجالات صعبًا، ولكن يجب على الأطراف محاولة الحفاظ على أقصى مايمكن من الآليات المفيدة السارية حاليًا- بشرط الالتزام بالاتفاقيات.

من المؤكّد أنَّ هذه الخطوات لن تمهِّدَ، في المستقبل القريب، الأرضية لإزالة التناقضات الجذرية بين روسيا وأميركا. وبأخذ عمق التناقضات في الحسبان، سيكون من الغباء، بل من الخطر توقُّع اختراقٍ ما.

تظل إقامة أنموذج للعلاقات بين البلدين، يدير فيه الطرفان بإدارة المخاطر بجديِّةٍ وتروٍّ أكثر أولويةً من دوَّامة الأوهام المتبادلة المستمرة طوال ربع قرنٍ.

 

اسم المقالة الأصليНе до большой сделки
كاتب المقالةأندريه  وييس/ نائب رئيس صندوق كارنيغي من أجل السلم العالمي
مكان النشرمركز كارنيغي في موسكو
تاريخ النشر15-03-2017
رابط المقالhttp://carnegie.ru/2017/03/15/ru-pub-68279
المصدر الأساسي وتاريخ النشرصحيفة “فيدوموستي”

15-03-2017

 رابط المقالة” http://www.vedomosti.ru/opinion/articles/2017/03/15/681186-ne-do
المترجمسمير رمان

مقالات ذات صلة

إغلاق