مقالات الرأي

معركة دمشق ضمن سياقها الواقعي

يمكن القول إن معركة دمشق الأخيرة محدودة الأهداف، وتنحصر غايتها في وقف تقدم قوات النظام في الغوطة الشرقية، بحسب ما صرحت به بعض الفصائل المشاركة فيها. في حقيقة الأمر، فإن النظام لم يلتزم الهدنة في تلك المنطقة، وليس خافيًا على أحد أنه يسعى إلى السيطرة على الغوطة الشرقية، وفرض تسويات كتلك التي في الوعر أو وادي بردى أو غيرها مما شهدناه في السنوات الأخيرة. في المقابل، فإنه من المستبعد أن تبادر الفصائل، المدعومة من أنقرة وحلفائها في الخليج، إلى عملية تستهدف العاصمة السورية دون ضوء أخضر من الداعمين، ولا سيما أنهم يملكون ورقة التهديد بقطع التمويل عن المشاركين في أي عملية تتعارض ومصالحهم.

لم تبدأ معركة دمشق قبل أيام، إذ يوحي تسلسل الأحداث أنها أتت في سياق تطورات ما بعد منبج، حين منع التنسيق الروسي الأميركي قوات درع الفرات المدعومة من تركيا من دخول المدينة، في إثر اتفاق جرى برعاية موسكو، ونتج عنه تسليم قرى في محيطها إلى قوات النظام، وذلك بالتزامن مع تمركز قوات عسكرية أميركية في منبج نفسها. لم يكن، من ثم، مفاجئًا قرار الفصائل عدم المشاركة في أستانا 3، وكذلك ما تلاه من تقارير إخبارية تحدثت عن إحباط عملية تستهدف العاصمة السورية عبر حي برزة، وأفشلتها كتيبة معارضة كانت قد دخلت سابقًا في تسوية مع النظام، وصولًا إلى التطورات الأخيرة وإعادة توجيه الفصائل المقاتلة قواتها إلى حي جوبر المتاخم لساحة العباسيين الرئيسة في دمشق.

جنيف وأفق المعركة

ستلقي المعركة بظلالها على جنيف 5 الذي يُعقد حاليًا في المدينة السويسرية، وهي ظلال ثقيلة على النظام، حيث تمكنت الفصائل المقاتلة من إثبات هشاشة دفاعاته في محيط العاصمة، وقدرتها على تهديد أمنه في أهم معاقله، وتسببت بانزياح خطوطه الدفاعية إلى داخل المدينة، وانتشار دباباته في شارع فارس الخوري وحي التجارة في قلب العاصمة. إن عملية، كتلك، تستطيع تحريك المياه الراكدة، وإرباك التوازن العسكري الذي بدا أنه يسير لصالح النظام بعد سيطرته على حلب، لكن دون قدرة جدية على تغييره. أسباب ذلك كثيرة، ليس أقلها عدم توفر خطوط الإمداد، وتشكك في قدرة المعارضة على خوض حرب طويلة في دمشق، فالغوطة جيب معزول، ولا يمكن مقارنة ما يجري في محيطه مع المعارك التي دارت في الشمال السوري المفتوح على تركيا.

من المؤكد، أن قدرة الفصائل المقاتلة على تهديد العاصمة، تحمل كثيرًا من الرسائل السياسية في جنيف للنظام وحلفائه، لكن غياب أفق واضح للمعركة، وعدم قدرة الفصائل على قلب التوازنات العسكرية لصالحها، يثير كثيرًا من التساؤلات عن الهدف المأمول منها، وهو إما أن يكون محاولة يائسة لجيب معزول، يخشى هزيمة مقبلة، أو أن الفصائل تطمح من خلاله إلى الدفع نحو وقف إطلاق نار فعلي، ينتهكه النظام بشكل يومي، وهي بأمس الحاجة إليه. يمكن عدّ أن خيارات الفصائل المقاتلة ليست بمعزل عن خيارات الأسد وحلفائه، فالتعامل مع الخطر الداهم في محيط العاصمة، يجري إما عبر تحييده، وإخضاع الغوطة الشرقية لسيطرة النظام وطرد الفصائل منها، أو احتوائه عبر تثبيت الهدنة وخطوط التماس تثبيتًا جديًا وحازمًا في تلك المنطقة. الخيار الأول قد يقوض وقف إطلاق النار ومسار أستانا، وفي الوقت نفسه، يعمل النظام وإيران لتقويض الخيار الثاني.

النظام

يحاول النظام، من جهته، احتواء الموقف في دمشق، عبر نشر دبابات تي 92 الحديثة في شوارع المدينة، وإعادة انتشار ميليشيات موالية، كفوج المهمات الخاصة -ميليشيا شاركت في معارك مدينة تدمر- فيها، وربما يضطر لاحقًا إلى توفير مزيد من التعزيزات. يتزامن ذلك، مع معركة أخرى حامية تدور رحاها في محافظة حماة تدعمها نفس الأطراف الخارجية، حققت فيها الفصائل تقدّمًا مهما في الأيام الماضية، حيث اقتربت، حسب تقارير، إلى مسافة أربعة كيلومترات من المدينة، وأجبرت النظام على الدفع بقواته باتجاه منطقة اعتبرها سابقا آمنة ومستقرة. يخوض جيش الأسد، أيضا، حربًا شرسة ضد “داعش” في غرب الفرات، وبالنظر إلى ضعف قواته وتشتتها فإن قدرته على إدارة وتعزيز ثلاثة جبهات حامية وهامة، هو أمر مشكوك به وسيضطره للمفاضلة بينها. في المقابل، فإن غياب مشاركة نشطة ومكثفة للطيران الروسي في جبهة دمشق، وأيضا من جهة الميليشيات الإيرانية وحزب الله على الأرض، قد يعدّ مؤشرًا إلى أن تلك الأطراف جميعها، وعلى الرغم من انشغال وكلاء طهران بجبهات أخرى، ترى، حتى الآن، أن قوات الأسد لا تزال قادرة على احتواء ذلك الهجوم.

تركيا وروسيا ومسار أستانا

لا يمكن الفصل بين معركة دمشق وأثرها في العلاقات الروسية التركية ومسار أستانا، إذ إن التوتر بين الطرفين الذي قد تتسبب التطورات الأخيرة بتصعيده، سيسهم بإضافة مزيد من العراقيل ويهدد بانهيار وقف إطلاق النار الهش. من الصعب تقبل فكرة استمرار الاتفاق في حال دفعت التطورات الطيران الروسي إلى المشاركة بفاعلية وتكثيف في قصف الغوطة، بذريعة مشاركة هيئة تحرير الشام، تشكل جبهة فتح الشام/ النصرة عمادها، إلى جانب الفصائل.

بالنسبة لتركيا، تبدو الرسالة واضحة، بمعنى أن تجاهل مصالحها، وخصوصًا ما يتعلق بالشأن الكردي في سورية، يدفعها إلى التلويح بورقة تهديد اتفاق وقف إطلاق النار الهش. تخشى أنقرة أيضا، تعاونا روسيا أميركيا يأتي على حساب نفوذها في سوريا، بدت مفاعيله واضحة في تنسيق الطرفين لمنعها من السيطرة على منبج. في المقابل، فإن الأخيرة تغامر بدفع علاقاتها مع موسكو إلى مرحلة جديدة من التصعيد، قد تؤدي إلى انهيار مسار أستانا، وتجعل من الاشتباكات بين الجيش التركي المشارك مع عملية “درع الفرات” في الشمال السوري، من جهة، وقوات النظام، من جهة أخرى، خطرًا محتملًا.

ترسل موسكو، في المقابل، إشارات توحي باستمرار التزامها بمسار التهدئة، فالهدنة “لا تزال قائمة على رغم محاولات نسفها” حسب بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي. ليس مستغربًا أن تخشى موسكو انهيار مسار أستانا، فهي تعتمد عليه وعلى ترتيبات وقف إطلاق النار الذي نتجت عنه، للحد من انخراطها في الحرب السورية وتأمين مخرج منها، ويفسر ذلك امتعاض وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من التطورات الأخيرة، حين تطرق إلى “محاولات تقويض الهدنة وإفشال جهد التسوية السياسية” عشية استئناف مفاوضات جنيف. لكن اهتمام موسكو باستمرار الهدنة، لا يعني أنها لن تتخذ خطوات تصعيدية باتجاه أنقرة، تشير إليها التقارير الواردة عن قاعدة روسية في جيب عفرين الكردي على الحدود مع تركيا.

مؤشرات للمراقبة

لا يمكن التنبؤ حاليًا بمسار وتبعات المعركة؛ إذ يعتمد ذلك على تفاعلات اللاعبين وإدارتهم لمصالحهم، فبين روسيا وتركيا وإيران وميليشياتها والنظام والفصائل الإسلامية وداعميها، يعتمد استشراف احتمالات تطورات الأحداث الجارية على مؤشرات تجب مراقبتها في الأيام والأسابيع المقبلة.

بدءًا بروسيا التي قد تعبر مشاركتها المكثفة في قصف الفصائل في الغوطة الشرقية عن قرار بتحييد جيب الفصائل الذي يهدد النظام في عاصمته، ما قد يُشكّل خطرًا على مسار أستانا، ويؤدي إلى مزيد من التوترات في علاقاتها مع تركيا، وقد تعبر محاولتها الضغط على النظام في جنيف عن رغبة في التهدئة والاستمرار في السير بخطوات بطيئة نحو حل سياسي، وقد تسعى موسكو إلى نوع من الموازنة بين المسارين؛ مستفيدة من تأكيد توافقاتها مع أنقرة على ضرورة فصل المعتدلين عن الإرهابيين. من جهة إيران، فإن إعادة انتشار وتكثيف وجود الميليشيات التابعة لها، بما فيه “حزب الله” اللبناني في المناطق الساخنة في محيط العاصمة قد يشير إلى عمق المأزق الذي وصل إليه النظام في عاصمته، وعزم لحسم ملف الغوطة عسكريًا.

من المهم -أيضًا- مراقبة الجيش التركي والكتائب المنضوية في درع الفرات في الشمال السوري، من جهة التحركات أو التعزيزات التي قد تكشف عن استعدادات لاشتباكات محتملة مع قوات النظام، أو مساع لتجنب ذلك، وفي الحالتين يفيد ذلك بأن أنقرة تتحسب لانهيار الهدنة. بالنسبة إلى جيش الإسلام في دوما، فإن إحجامه عن المشاركة في معركة دمشق، أثار امتعاض الفصائل الأخرى، وعبر عنه بيان أصدره المجلس الأعلى الإسلامي يدعو فيه جميع الفصائل إلى المشاركة في المعارك الدائرة، يمكن فهمه في سياق عدم توافر ضوء أخضر سعودي للمضي بالهجوم، أو حسابات داخلية، تتعلق بإضعاف فيلق الرحمن المشارك في العمليات، وهو ينافس الأول على النفوذ في الغوطة الشرقية. يمكن، من ثم، أن تعبر مشاركة جيش الإسلام في المعارك عن جدية التهديد الذي يتعرض له هذا الجيب من النظام وحلفائه.

من الممكن أيضًا الإشارة، بدرجة أقل، إلى أن أي جهد لاستثمار انتصارات الفصائل ضد تنظيم “داعش” في القلمون الشرقي، والسعي لوصل المنطقة مع جيب الغوطة، قد يعني رغبة بفتح خطوط إمداد محدودة –الطرق طويلة في مناطق صحراوية مكشوفة لطلعات طيران النظام وحليفته موسكو- مع الأردن عبر البادية، كما قد يشير تحريك الجبهة الجنوبية باتجاه الغوطة إلى رغبة بدعم معركة دمشق واستمرارها. يحتاج ما سبق إلى ضوء أخضر أميركي ودعم سعودي وقبول أردني وإسرائيلي، ولا توحي الأجواء حاليًا بتوفر ذلك جميعه.

خلاصة القول، إن معركة دمشق، ليست واضحة المعالم، ولا يمكن الجزم -في الوقت الحالي- بتبعاتها، وتطوراتها، كما لا يمكن المبالغة في تأثيرها. من الممكن أن تسهم في دفع العلاقات الروسية التركية نحو مزيد من التوتر، دون أن تكون المحرك الرئيس للتصعيد في علاقات شهدت الكثير من المد والجذر في السنوات الأخيرة. قد تؤدي المعركة أيضًا إلى انهيار مسار أستانا الذي يترنح أمام عقبات أخرى كثيرة، وترتهن نتائجه أساسًا بالقدرة على توفير أفق لحل سياسي في جنيف، يكون مقبولا للاعبين الإقليميين والدوليين. قد توحد المعركة أيضًا جهد النظام وحلفائه لتسريع القضاء على الفصائل المقاتلة في غوطة دمشق. في المقابل، فإن ما يمكن أن توفره التطورات الأخيرة للمعارضة، لا يتعدى مزيدًا من الضغط على النظام في جنيف، وربما تثبيتا لوقف إطلاق النار في الغوطة الشرقية بما يردع الأخير عن التقدم نحوها، لكنها في المحصلة معركة كشفت هشاشة القدرات العسكرية للنظام، وأدت، إلى جانب المعارك الدائرة في محافظة حماه، إلى تحريك الستاتيكو المقبل، دون أفق لتغييره جذريًا.

مقالات ذات صلة

إغلاق