لقد عرف الطغاة في الأرض كيف يحافظون على سلطتهم المطلقة، وكيف يطيلون عمرها، وذلك منذ بداية تشكل الحضارات الكبيرة، ولعل الحضارة الرومانية كانت من أوضح الأمثلة، فمنذ ما يزيد على ألفين وخمسمئة سنة، حدد أرسطو الأسباب التي يحافظ بها الطغيان على استمراره، ووجدها تتمثل في “القضاء على كل تفوق يرفع رأسه، والتخلص من الرجال أولي الألباب، ومنع الموائد العامة والاجتماعات، وإفقار الرعايا؛ إذ إن الرعايا وهم في شغل لتحصيل قوت يومهم لا يجدون من الوقت ما فيه يتآمرون”.
منذ أكثر من ألفين وخمسمئة سنة، لم يزل الطغاة يجيدون هذه الأسباب التي عدّوها بمنزلة الوصايا؛ كي يضمنوا استمرار ممالكهم المبنية على الرعب والفقر، ولم يزل الاستبداد محكومًا بقانون فرض وانتزاع الطاعة المطلقة من أفراد الشعب؛ حتى لو تغير شكل أنظمة الحكم مع الزمن، ولم يزل -أيضًا- مرهونًا باتباع سياسة العصا أو الجزرة، أو اتباعهما معًا”، وكل ما تغير مع الزمن، هو أن الاستبداد بدأ يُنوّع في شكل العصا التي يستخدمها، ويغير في طرائق استخدامها، فأحيانًا هي عصا للتخويف، وللرعب والإرهاب، وأخرى للتعذيب، وثالثة للقتل والتصفية. إضافة إلى أنه صار يتفنن في أنواع وأشكال الجزرة، فهي الهبة والمنحة التي يمن بها على شعبه بتقديمها له، وهي الأعطية التي لا يكلف نفسه حتى أن تكون كبيرة، وهي المناصب الصغيرة التي قد تتدرج لتصل -في أحيان قليلة- إلى مناصب كبيرة، ولعل أقصى درجات هذه “الجزرة” امتلاك الحظوة لدى هذا النظام الاستبدادي.
مع تغيّر شكل أنظمة الحكم، وتغيّر بناء الدولة عبر العصور، وبعد الوصول إلى مفهوم الدولة الحديثة، كان لابد لأي نظام استبدادي من محاولات التنكر بأقنعة تلائم اهتمامات الشعب في هذه المرحلة، لذا؛ فقد لبست هذه الأنظمة الاستبدادية، في المرحلة الحديثة من التاريخ العربي، أقنعة القومية، والتقدمية، والحداثة، والعلمانية، على الرغم من أنها كانت تقدم خطابات سياسية شوفينية، وتمارس مفهوم احتكارية الزمرة، وهي سياسة رأسمالية المافيا أو العصابة المتحكمة، تنهب وتستولي على كل مقدرات البلد، وكانت تقدم سياسات اجتماعية مدروسة وثقافية ممنهجة جعلت شعوبها تخسر كل مراحل التطور الطبيعي، بل، على العكس، جعلتها تعود مئات السنين في طريقة البحث العلمي، وفي منهج التفكر النقدي وفي طريقة التفكير الاستقصائي، كما جعلت هذه الأنظمة مفهوم العلمانية يدًا تستغلها أداةً سياسيةً لمحاولات عميقة، تجذّر بها الفكر الطائفي، وتشجيع الانغلاق المذهبي، وتقتل أي محاولة إصلاحية في الفكر الديني؛ لضمان استمرار الاقتتال المبطن، وحالة الرعب مع الأديان والطوائف والمذاهب الأخرى التي تجعل الشعب دائمًا مشغولًا بها، وتجعل كل فئة تحس أن النظام المستبد هو الوحيد القادر على حمايتها، وأنه في حال غيابه، فإن الآخرين سوف يبتلعونها.
لذا؛ فإن أكثر ما يُهدّد الأنظمة الاستبدادية الهشة هو تشكّل أي بادرة لنهضة فكرية تحوّل الفرد من حال الإحباط والقتل المعنوي البطيء، إلى فرد خلّاق، يتحول من مطالبة المجتمع بتغيير النظام والحصول على حقوقه، إلى المساهمة في تغيير المجتمع من الداخل، والبدء بالتخطيط لكيفية تغيير نظام الحياة السياسية والاقتصادية، والفكرية، وذلك من خلال إعادة إنتاج ثقافة السؤال، وثقافة التعددية، وطرح أفكار جماعية مقنعة، وهكذا؛ فإن أي مبادرة خارجة عن أصابع النظام وعن اسمه، ستكون وحشًا مرعبًا له، وخاصة إذا استطاعت هذه المبادرة أن تضم إليها عددًا كبيرًا من الناس، ومن ثم؛ تشكل مناخًا لتجمعات خارجة عن السيطرة المطلقة، وهي -بحد ذاتها- ستشجع في داخل الفرد مفهوم وثقافة العمل المدني، وبذلك تزلزل الهرم القمعي المتصدع الذي يجلس رئيس النظام على قمته.
لكل هذا جاءت ثورات الربيع العربي صاعقةً لكل الأنظمة العربية التي تحكم باستبداد شعوبها، وتختلف بين جمهوريات كاذبة وملكيات دينية مستبدة، وكل هذا جعل الأنظمة العربية تحاول إفشال هذه الثورات الملحمية، وتسهم، وإن بشكل مخفي، في إجهاضها، وتحويل البلاد إلى حال من الفوضى القاتلة.