تسلط رواية تنهيدة المغربي الأخيرة لـ “سلمان رشدي” ضوءها على الواقع الهندي منذ بداية القرن العشرين، متوغلة في الزمن؛ حتى العشر الأخير من القرن عينه، ثم ما تلبث أن تعودَ بالقارئ إلى أزمنة غابرة في عمق التاريخ الهندي والإسباني معًا، أراد الكاتب من خلالها، الكشف عن ثغور الحياة السياسية والاجتماعية القائمة في مراحل متباينة من الزمن والتاريخ.
اعتمد رشدي في سرده الروائي على الحداثة في السبك والحبكة، ويبدو ذلك جليًّا من خلال تعميته – معظم الأحيان – للحدث الروائي أو بالأحرى التوغل في مجاهله، ثم إضاءة واحدة من زواياه الكثيرة، دون الكشف الحقيقي عن كنهه، تاركًا للقارئ السؤال المحيّر ذاته: “هل حصلَ ذلك، أم لم يحصل؟” منهيًا بذلك مصير شخوصه، بالتوازي مع خلق حدث جديد يتصل اتصالًا مباشرًا بسير فصول الرواية.
موريس الزغبي أو المغربي الأخير، كما أراد له ” سلمان رشدي ” أن يكون، أحد أبطال الرواية، وعلى لسانه رُويَ الحدث، جاعلًا منه الشاهدَ الوحيد على الزمن وحياة الشخوص، وموتها أيضًا.
وبالحديث عن “بطل الرواية” لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الكاتب لم يجعل للرواية بطلًا بعينه، إنما اختار أن ينتصرَ للحدث والمكان والزمان، ليكون هذا الثالوث الحسّي، هو العامل الأول في ضخ الحركة في جسد الشخوصِ وتقرير مصيرها.
يُولد “موريس الزغبي” بعد قصة حب جمعت بين والده اليهودي “أبراهام الزغبي” وأمه المسيحية أورورا، متحدية بذلك أعراف الهندِ وتقاليدها، بما تملكه هذه المرأة من جرأة ونزعة فردية.
أورورا، الشخصية الأكثر تحميلًا وإثارةً للحدث، تلكَ المرأة الجميلة والقوية التي استأثرت بانتباه الهند قاطبةً بموهبتها العظيمة في رسم الحدث، في لوحاتٍ ستبدو خالدة، جعلتها محطّ أنظار سياسيي الهند وأحزابها وقاتليها أيضًا.
أوروا المفعمة بالموتِ والحياة، بالخيانةِ والحب، بالإفصاحِ والغموض. “أورورا ” التي ستترك صوتها يطرح الأسئلةَ في رأسك، تمامًا كما فعلت “أورسولا” في رائعة ماركيز “مئة عامٍ من العزلة”.
ولم تأتِ كنية “الزغبي” التي ارتبطت بموريس -بطل سلمان رشدي- مصادفة محض، وإنما جاءت إسقاطًا تاريخيًا تمتدّ جذوره إلى أواخر القرن الخامس عشر؛ حيثُ طُردَ آخرُ مغربيّ، بوصفه حاكمًا عربيًا للأندلس، وهو “أبو عبد الله”، ولقبّه أهل غرناطة حينئذ بـ “الزغابي”، أي: المشؤوم أو التعيس.
وكأنّ سليمان رشدي أراد من تنهيدة المغربي الأخيرة أن تكونَ علامةً أو ندبةً في رئة التاريخ، تبدأ بأبي عبد الله المخلوع منه الحكم، وتنتهي بمغربيّ أخيرٍ آخر، وهو موريس الزغبي الذي سيعود إلى إسبانيا ويطلق زفراتهِ الأخيرةَ هناك.
وهذا ما سيكشفه القارئ من تلقاء نفسه، ما إن يغوص في فصولِ الروايةِ ومكنوناتها وشخوصها، ولا بدّ من الإشارةِ -أيضًا- إلى أنّ الكاتبَ اعتمدَ شبهَ إفصاحٍ يشوبه شيء من الغموض، من خلال مروره -أيضًا- على “كنوزٍ” تعودُ إلى أبي عبد الله، كانت والدةُ أبراهام أو جدة موريس الزغبي قد احتفظت بها.
أمّا أبراهام -والدُ الزغبي- فهو الشخصيةُ التي ستبدو خلفيّةً في معظم فصولِ الرواية، الشخصيةُ الظل التي تتحرك وفقَ مشيئةَ الحدث، هكذا؛ حتى تكشف لنا الروايةُ نفسُها كنهَ هذا الرجل في حلقاتها الأخيرة.
ومن الأهمية القول إنّ شخوص الروايةِ وأبطالها يسيّرونَ الحدثَ وفقَ ما يقتضيهِ بناءُ الشخصيةِ الدراميّ، وكأنما خيوطهم قد أفلتت جميعًا من أصابع الكاتب؛ لتتحرر -أخيرًا- وتقودَ الحدثَ إلى نهايته.
يتطرق “سلمان رشدي” خلال سرده الروائي للأحداث السياسية المهمة التي مرت بالهند، من احتلال البريطانيين لها، وانقسام الهنود في الأحزاب الموالية منها للوجود الإنكليزي والمعارضة له، فيسلط الضوء على حياة الأقليات العرقية والطائفية التي ستتسلح –أيضًا- بالأحزاب بطريق الانضمام إليها، مارًّا بالنزاعات الطائفية الدموية، ولا سيما التي ستحدث بينَ الهندوس، بوصفهم أكثرية محافظة، والمسلمين، بوصفهم أقلية تريد الحفاظ على وجودها.
وأخيرًا؛ تنتمي “تنهيدة المغربي الأخيرة” من حيث أسلوب طرحها ومدرستها، إلى الواقعية السحرية، ويبدو ذلكَ جليًّا وواضحًا في تكوين أبطالها الجسدي والنفسي، وفي الواقعيّة المبالغ في تصويرها والمقصودة في طرح الحدث، وبخاصةً ما يتعلق بـ “موريس الزغبي” الذي يُولد بعد أن تحمل به أمه أربعةَ أشهرٍ ونصف الشهر فحسب، ليعيشَ بعدئذ في زمنٍ مُضاعف، من حيث بنيته الجسدية والعُمرية، إن صحّ القول.
العنوان “تنهيدة المغربي الأخيرة” -المكوّنة من 527 صفحة، والصادرة عن درا التكوين في دمشق عام 2017، ما هو إلا عنوان قصيرٌ جدًا لروايةٍ طويلة، تحفلُ بأحداثٍ متسارعة ونهاياتٍ ذاتِ خيوطٍ تتشابك حينًا، وتنفرج أخرى، هكذا؛ حتى يسقط القارئُ بين فخّي جمالية الحدث وبراعة الكاتب.