ترجمات

ضم القرم سمح لبوتين الادعاء بجعل روسيا عظيمة ثانية

عدّ استعراض القوة في أوكرانيا أكبر لحظة في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية. ولكنها استراتيجية محفوفة بالمخاطر

أفراد عسكريون روس يحيطون بقاعدة أوكرانية في آذار/ مارس 2014: “رجال خضر مهذبون صغار مع معدات عسكرية، بدون شارات مزدحمة، في شبه جزيرة القرم” تصوير: دان كيتوود /صور غيتي

يرجع معظم التوتر الحالي بين روسيا والغرب إلى قرار فلاديمير بوتين بإرسال قواتٍ إلى أوكرانيا قبل ثلاثة أعوامٍ في مثل هذا الأسبوع، لكن في الحقيقة، كان هذا الانتشار ردَّة فعلٍ على مخاوف بوتين من تزايد النفوذ الغربي في أوروبا الشرقية.

في شتاء 2011-2012، شهدت روسيا أكبر احتجاج منذ التسعينيات، بسبب التزوير الصارخ للانتخابات التشريعية الروسية عام 2011، وقرار بوتين بالترشح للرئاسة مرةً أخرى بعد أربع سنواتٍ من استخدام ديمتري ميدفيديف رئيسًا صوريًّا، وشكّل المتظاهرون تحالفًا لكنه غير متجانس: اليساريون غير المنظمين، والليبراليون العدميون/الكوسموبوليتانيون، والقوميون المتشددون، والعمال الساخطون، وتجمّع عشرات الآلاف من المتظاهرين وسط موسكو في درجات حرارة تحت الصفر، وشرائط بيضاء على “طياتهم”.

كانت روسيا تخشى منذ مدة طويلة من احتمال وجود “ثورة ملونة” مؤيدةٍ للديمقراطية على أراضيها، بعد أنْ راقبت -برعبٍ- الاحتجاجات الجماهيرية التي أطاحت الأنظمة في الولايات السوفياتية السابقة، في جورجيا عام 2003، وأوكرانيا عام 2004، وقيرغيزستان عام 2005. صوّر بوتين، ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، هذه الحركات على أنها مؤامرات غربية، ومؤامرات وكالة الاستخبارات المركزية، بتمويلٍ من جورج سوروس. وبالنسبة إلى بوتين كانت تهديدات لسلطة روسيا الإقليمية واستقرارها التي كانت قد دُمرت بالفعل؛ نتيجة سقوط الاتحاد السوفياتي، فضلًا عن أنَّها تهديداتٌ لسلطته الشخصية.

لم يكن مفاجئًا حين تحركت موسكو بسرعةٍ للقضاء على “ثورة الثلج” الوليدة في روسيا، كما كان يُطلق عليها بعض الصحافيين الناطقين باللغة الإنكليزية. حلَّ القمع في شكل ضرب وتشتيتٍ عنيف، واعتقالاتٍ لقادة المعارضة والمتظاهرين بتهمٍ مزعجة، ومحاكماتٍ صورية للمعارضين؛ أشهرها من بوسي ريوت (فرقة فنية أنثوية تقدم عروضًا عن الحياة الروسية السياسية في أماكن عامة وغريبة) -ومزيدٍ من التقليص لحريات الصحافة والتعبير والتجمع،

المحدودة أساسًا.

لكن جهد بوتين لوقف ثورةٍ ملونة محتملة، تجاوزت القمع؛ وصولًا إلى حملةٍ يمكن تسميتها “إعادة روسيا عظيمة ثانيةً”، هدفت إلى بناء شعورٍ إيجابي بالهوية الروسية، من خلال مزيج استراتيجي من الدعاية والعدوان الجيو- سياسي؛ إذ روّجت حكومة بوتين روايةً، تهدف إلى تعزيز الوطنية، وكره الأجانب الروسي، وجنون العظمة/ البارانويا.

وبحلول نهاية عام 2013، انحسرت حركة المعارضة الروسية، ولكن بوتين واجه مأزقًا جديدًا؛ ثورة الميدان (ساحة كبرى في كييف) في أوكرانيا المجاورة، وهي حركةُ احتجاجٍ ضخمة، سلمية في معظمها، احتلت وسط كييف عدّة أشهر، وبلغت ذروتها في رحيل الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش -صديق روسيا- في شباط/ فبراير 2014.

بدأ ذلك استجابةً لرفض يانوكوفيتش التوقيع على اتفاق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لذلك، بقدر ما كان بوتين قلقًا؛ فإنه يدل على تعدٍ غربيّ آخر على مجال نفوذه. بدا العالم وكأنه يطوّق روسيا.

لكن بوتين كان مستعدًا. مرتبًا خطةً، كان من الواضح أنّها وُضعت مسبقًا، “رجالٌ خضر صغار” مهذبون بعتادٍ عسكري من دون شاراتٍ واضحة في شبه جزيرة القرم، وبعد أيامٍ قليلة، ومن دون إراقة الدماء تقريبًا، جرى احتواء، أو التغلب على القوات الأوكرانية في شبه الجزيرة، وكان قد طُلب من السياسيين في القرم حلّ البرلمان، واستبدال رئيس الوزراء بعضوٍ من حزب الوحدة الروسي في شبه جزيرة القرم، ويعاد ” لم شمل” المنطقة مع روسيا.

كانت آلة الدعاية الروسية بالفعل في تسارعٍ، تُقنع السكان الروس، وكذلك سكان شبه جزيرة القرم وشرقي أوكرانيا، أنَّ ما بعد ميدان كييف هو “مجلس عسكري فاشي” بقيادة القوميين الأوكرانيين المتعطشين للدماء الذين خططوا لإبادة الناطقين بالروسية، ولذبح الأطفال، وهلمّ جرا.

دفعت وسائل الإعلام التي تُسيطر عليها الدولة بفكرة أنّ “عودة” شبه جزيرة القرم إلى روسيا كانت أعظم لحظةٍ في التاريخ الروسي منذ النصر على النازيين عام 1945، ودعامةُ الهوية الروسية بعد الحرب، والمأساة والانتصار الذي وحد الشعب السوفياتي. إنَّ انتهاك بوتين الصارخ للقانون الدولي، ولنظام ما بعد الحرب، من خلال ضم شبه جزيرة القرم، كان خطوةً عدوانية للعودة إلى عالمٍ تبقى فيه روسيا قوةً عظمى دولية، وحشو مواطنيها بكبرياءٍ وطنية. صرخ الروس متفاخرين، “كريم ناش!” – “القرم لنا!”

أعاد ضمّ شبه جزيرة القرم روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي إلى روايةٍ لمجد إمبراطوري امتد إلى أيام كييفان روس (خاقانات روس، وهي الإمارة الروسية في كييف التي تأسست عام 882، ويعدّها الروس بداية تأسيس دولتهم)، وهي الدولة القروسطية التي كانت السلف لكلٍّ من روسيا وأوكرانيا. في القرن العاشر، حوّل “الفاتح الكبير”، فلاديمير (ويعرف باسم فلاديمير الأول، أمير من عام 978 إلى عام 1015)، أمير كييف، شعبه إلى المسيحية بعد أنْ تعمّد، كما يقال، في مستوطنة شيرسونيسوس الإغريقية القديمة، في شبه جزيرة القرم، ومن ثم؛ صارت شبه الجزيرة نقطة الانطلاق الرمزية لعضوية روسيا في العالم المسيحي. إنها القرم التي ضمتها كاترين العظيمة [(من 1729 إلى 1796)، استمر حكمها 34 سنة، استعادت خلاله القرم عام 1774] من الإمبراطورية العثمانية، من دون إطلاق رصاصةٍ واحدة؛ مؤكدة مكانة روسيا الجديدة بوصفها واحدةً من “أعظم” الحضارات في العالم.

من بين جميع الخسائر التي رافقت نهاية الاتحاد السوفياتي، لربما كانت القرم أكثر تأثيرًا على روسيا. وجزءًا من سعيه لاستعادة المجد الروسي المفقود، وصل بوتين حيث توقفت كاترين “العظيمة” والأمير فلاديمير. بعد ضم شبه الجزيرة في آذار /مارس 2014، أعلن بوتين أنَّ شبه جزيرة القرم هي “المصدر الروحي” للدولة الروسية. وهذا أعطى القرم “أهمية وقيمة حضارية وحتى مقدسة لروسيا”، وأكد بوتين وجهة نظره في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عندما كشف النقاب عن تمثالٍ للأمير فلاديمير، يبلغ طوله 16 مترًا، خارج الكرملين.

على الرغم من أنّه من الصعب -إلى حد ما- قياس الرأي العام الحقيقي في روسيا، فإنه يبدو من الواضح أنَّ حملة بوتين لجعل روسيا “عظيمةً” مرة أخرى، كانت نجاحًا رنانًا، على الأقل للحصول على معدلات موافقة محلية.

تفكك التحالف الهش لحركة الاحتجاج بين 2011 و2013 بسهولة، ومقاضاة زعماء المعارضة بتهمٍ كاذبة، واغتيل بوريس نيمتسوف، أحد قادة المعارضة الليبرالية، عام 2015.

واليوم لا يمكن تصوّر ثورةً روسية ملونة؛ كانت الدعاية الحكومية ناجحةً نجاحًا ملحوظًا في توليد الهستيريا، وقد ساعد في ذلك أنَّ العقوبات الأميركية والأوروبية أدتا إلى الإضرار بالاقتصاد الروسي، ورفع أسعار المواد الغذائية؛ هذه المصائب التي أصابت الطبقات الوسطى والدنيا أكثر بكثير من أصابتها فئات القلة الحاكمة/ الأوليغارشية؛ شجعت الشعب الروسي على رؤية الغرب عدوًا محتملًا، وجرى توجيه إسفين بقوة بين النخبة الليبرالية الصغيرة الكوسموبوليتانية في روسيا، وعناصرها القومية أو البروليتارية. في الوقت الراهن، فقد أكسبته الفنتازيا الإمبراطورية الجديدة الوقت؛ ما وفر لكثير من المواطنين شعورًا بالفخر الوطني الذي كانوا يفتقرون إليه افتقارًا مؤلمًا في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي.

ولكن لا تزال هناك أوراق كثيرة في اللعب، فقد تطلبت المشاعر القومية الروسية في شرقي أوكرانيا توازنًا دقيقًا؛ إذ لم يستوعب جميع الانفصاليين هناك الرسالة القائلة بأنّ القومية الروسية وسيلةٌ لتحقيق غاية؛ كان بعضهم مؤمن حقيقي؛ ما يشكل خطرًا آخرَ على بوتين الذي استغلّ في نهاية المطاف العولمة والحنين القومي السوفياتي لجميع من هم جديرون به. ومع استمرار تدهور مستوى معيشتهم، يزداد شعور الروس بالاستياء من السياسيين والبيروقراطيين الفاسدين فسادًا صارخًا.

في هذه اللحظة، ينتزع بوتين ورقةً من كتاب ستالين، ويلقي باللوم في كلّ مشكلةٍ على الأعداء الخارجيين، أو المحطمين الداخليين، أو غير المؤهلين. يبقى أن نرى كم من الوقت يمكن أن يستمر في ظل الانهيار الاقتصادي.

اسم المقالة الأصليHow annexing Crimea allowed Putin to claim he had made Russia great again
الكاتبصوفي بنكهام، Sophie Pinkham
مكان النشر وتاريخهالغارديان، The guardian،22/3
رابط المقالةhttps://www.theguardian.com/commentisfree/2017/mar/22/annexing-crimea-putin-make-russia-great-again
ترجمةأحمد عيشة

مقالات ذات صلة

إغلاق