هموم ثقافية

DNA

من الصعب أن ينجذب مشاهد التلفزيونات العربية إلى برنامج سياسيّ يُحلل الأحداث الجارية ويعلّق عليها، لأنّ الأحداث باتت تجري عارية، في وضح النهار، بحيث لا تحتاج إلى شارحين ومفكّرين للكشف عن خفاياها وأبعادها.

وفضلًا عن ذلك، بعض البرامج السياسية العربية غالبًا ما تكون بليدة وثقيلة الدم، يتفاصح ضيوفها، ويعملون على إظهار الجديّة والرصانة الزائدتين، المُنفّرتين للمشاهد العام، من غير أيّ حرص على تحقيق معادلة الفائدة ورشاقة الأسلوب لصالح عموم المشاهدين.

برنامج DNA ليس من هذا النوع الغالب. هو برنامج سياسيّ تحليليّ بامتياز، ولكنْ على طريقته الخاصّة، خفيفة الدم، شديدة التقرّب من المشاهد، ويعود ذلك، بلا أدنى تردّد، إلى الإعلامي، الموهوب واللماح؛ نديم قطيش.

ويمكن لمتابع البرنامج أن يلاحظ -بسهولة- التفاعل التعبيري بين كلام قطيش وحركة يديه وملامح وجهه، إضافة إلى لغة مبسَّطة، غايتها تقديم الفكرة إلى أوسع عدد من المشاهدين. وأقول المشاهدين، لأن الوثائق -سواء المكتوبة، أو المرئيّة المسموعة- هي DNA البرنامج وجيناته، التي تُميّزه، وتمنحه خصوصيّته.

ومن الحقّ أن اعتماد البرنامج على المُقتطف والمُقتبس من النصوص المنشورة، والإطلالات التلفزيونية، والخطابات السياسيّة، والتصريحات…إلخ، قد أكسب موضوعاته المطروحة، والآراء الواردة فيه صدقيّتها وموضوعيّتها، بل أكاد أقول إنَّ قوة البرنامج الرئيسة تكمن في المقتطف والمقتبس، فيما يقتصر الكلام على الربط بينها، وإظهار تناقضاتها.

ولا شك في أن خلف الاختيارات المعروضة جهد كبير مبذول، يتّسم بعينٍ ذكيَّة، لمَّاحة، قادرة على التقاط المفارقات، ومصرّة على البحث بدأبٍ، وتقصّ دقيق لما يبدو عابرًا أحيانًا، لكنّه يحمل كثيرًا من الدلالات والمعاني.

كان يُمكن للمشاهد أن يُرجع كثيرًا من الآراء والتحليلات الواردة في البرنامج إلى سياسة وهوى وميول نديم قطيش -أو حتى إلى افترائه على الحقيقة- لولا إرفاقها بتسجيلات مرئيّة مسموعة، لا تترك مجالًا للشكّ في صدقيّتها.

إذ هل لعاقل أنْ يصدّق تأكيد المدعو بشار الأسد بأنّ وصوله إلى منصب رئاسة البلاد سببه المصادفة الصرف، مثله في ذلك مثل أيّ مواطن سوريّ تختاره المصادفة، وأنّ حافظ الأسد لا علاقة له بالمسألة، لا من قريب ولا من بعيد؟

أو لعاقل تصدّيق أن الابن السابق ذكره، حين سُئل عن إسقاط البراميل المتفجّرة على السكان، قد نفى حدوث ذلك بالمطلق، وقدَّم دليله القاطع من كون القاموس العسكريّ لا يحتوي على اسم سلاح كهذا، وهو ما يُذكّر بنكتةِ مَنْ أخبروه بأن زوجته تخونه في الغابة، فنفى الواقعة لكون بضع شجرات لا تُسمّى غابة.

وأن لغوًا جاهلًا عن مفهومي التاريخ والزمن جرى على لسان الابن، أين منه -تفكّكًا ولخبطة- سخريات عادل إمام وسعيد صالح؟ وأن.. وأن.. كثيرًا جدًا من الأحداث والوقائع مشافهة، أو من خلال التحليلات السياسية ووجهات النظر، لو قيلت من دون وثيقة مكتوبة أو مرئية مسموعة، لما صدَّقها أحد لشدة غرابتها أو تفاهتها.

وعلى هذا يمضي البرنامج، عبر ما لا يزيد عن عشر دقائق، وفي أداءٍ فرديّ، سريع، ورشيق؛ في تناول الأحداث وتحليلها، من خلال أسلوب ساخر من دون مغالاة أو شطط، وجادّ من دون ثقل أو إبهام؛ لينضمَّ -بحق- إلى جملة وثائق تحفظ للمستقبل -بالصوت والصورة، قبل الرأي والتحليل- كثير من حوادث ومصائب حياتنا العربيّة السياسيّة التي لا تشبه إلاّ نفسها.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

إغلاق