أدب وفنون

ثلاث نوافذ

اللقطةُ ضلعٌ من أضلاعك، تقفزُ فوق ركام المدينة، تركض بين عجلات سياراتك القديمة أول الزقاق، تصلُ الفرنَ ثم تقف في صفٍّ واحد مع الخوف، تتسلى قليلًا ريثما يتقدّم دورُها، وتلتقط بعضًا من الرصاصات الطائشة المرميّة أرضًا، لتعود إلى البيت، حاملة فوق رأسها أرغفة قليلة من الخبز، وفي جيبها رصاصتان طائشتان خَبأتْهما للذكرى كما اعتادت.

تومضُ وتختفي الأخبارُ العاجلة، وراءَ الصوت الخارج من جهاز “الغراموفون”، أظنّه كان يقول: (يا وابور قلي رايح على فين).

 

مرًة في الصيف، حدثَ وأن تعرفتُ على نهرٍ جاف، كل ما يوحي بمعالمه وملامحه كنهرٍ حقيقيٍّ كان قد زال وانتهي، الماء والسمك والأعشاب على جانبيه وأغصان القصب العالية.

ومع هذا بقيت الحصى في القاع، تُكلّم نفسَها وتلمعُ تحت أشعة الشمس، الحصى رأيتُها أسماكًا فضيًّة.

مع أن النهر صار يشبهُ الطريق، بقيت القريةُ تمشي بمحاذاته، والأشجار التي مرّ النهر في ملامحها سنينًا طويلةً، لم تنسَ تلك الصداقة، بل ظلّت تنفخُ الهواءَ صوبه، مذكرًة إيّاه بليالي السهرِ حتى الصباح مع نجمةٍ واحدة.

الطبيعة تُشبهنا، على الرغم من كلِّ ما فعلناه في هذا التراب، الطبيعة تتركُ وراءها أثرًا.

الوهمُ يكبر، وبرائحتها تطبعُ الوردةُ الهواء قبل أن تموت، المطرُ يتوقف بعد أن زرع لنا تلك الشجرة، واللقطة تسير بمحاذاة اللحظة تمامًا، لم يقتلها أي شيء، مع أنها كانت تغني بصوتٍ عالٍ، عندما مرت الحرب قربَها، الحربُ -أيضًا- تتركُ لنا دون قصدٍ عينًا مفتوحة.

 

تتكرر تلك اللقطة، ذلك النهر، في صورةٍ أخرى، إنها أشياءُ المفقودين؛ ثيابُهم وأحذيتهم وكتاباتهم وذكرياتهم وتفاصيلهم الصغيرة، تلك القابعة داخل كلِّ خزانةٍ في كل بيت. الأمُّ، بدايةَ كلّ فصلٍ تُشمسُّ ثياب ابنها المفقود على الشرفة، الزوجة تُصلح زرَّ قميص زوجها المفقود، وتتركه ممددًا فوق الكنبة حتى الصباح، الطفلة تُحضر قصةَ الأقزام السبعة إلى سرير والدها المفقود وتَسمَعُها بصوته لتغفو.

تغدو الأشياء هي جلدُ الآخرين، قطعة من لحمهم، لطالما فكرتُ كثيرًا بأن نحفر قبرين عند كل موتٍ، قبرًا لأجسادنا، وآخرَ لتلك الأوجاع التي رافقتنا، حتى سالت من دموع غيرنا في الغياب.

لكن ونحن نسيلُ بعذوبةٍ مع ذاك الشغف للماضي، بأن نحتفظ بخيوط الشمس والحزن فوق جباهنا، بأن نركض وراء تحفة ما ونضعها في الرّفِ الأول داخل “فاترينا” بيتنا، ونتباهى أمام الزوار بانحناءاتها، نتغزلُ بها امرأةً، ثم نشرح لهم كيف حصلنا عليها، وإلى أين يأخذنا حضورها في كلِّ مرةٍ ننظر إليها، وكيف نحافظ حتى على شكل الغبار فوق جسدها، مع كل هذا الحنين الجاري في عروقنا كيف يكون للحرب أرض وهواء وسماء لتعيش بيننا؟

 

صُوّرت اللقطة من زاويتين:

الأولى كانت برفقة النهر قبل أن يجف، ومع ضحكات المفقودين قبل أن يغادروا، هناك أسماكٌ صغيرة فوق السرير، وأحاديث متقطعة تموج في فضاء الغرفة.

الزاوية الثانية نبشت لنا جثّة الحقيقة، التي هربنا من مواجهتها سنينًا طويلة، وجمعنا لها كل تلك الزهور والأغاني والمنحوتات واللوحات والكتب والقصائد لننسى، لنقول للخطأ الذي اخترعناه: لن نكررك مرًة أخرى.

كنا نعيش في البدايات، بينما في الأعماق كانت السجون تولدُ وتكبرُ لتعج بالمنسي الآخر الموحش فينا.

 

تحركت الصورة وفق عالمين:

العالم الأول، يشبه كسرةَ خبزٍ تلمع تحت ضوء القمر، تنقلها نملةٌ ببطءٍ إلى مخبئها الشتويّ.

العالم الثاني، أرضٌ بيضاء في ليلةٍ مثلجةٍ، الهواءُ أبيض والضباب أبيض ودعساتٌ مجهولةٌ تتوزع كسرابٍ في كل الأرجاء، إنه العدم.

 

الخرافة تسيرُ، تلتقط كرز الجبال، تُطلق نكتًة للجيوش الزاحفة وراءها، الجيوش تضحك، الخرافة تغيرُ الطريق بحثًا عن كرز وجبال وجنود آخرين، الجنود يتعرفون على خرافاتٍ جديدة، لأنهم حفظوا الدُّعابة والنكتة، وألِفوا الضحكات الجماعيّة.

 

ثلاثُ نوافذ في اللقطة، حافظت على شرانق الضوء، ووزعتها كما تقتضي الطبيعة في سرد حكايتها، ثلاثُ نوافذ مرتفعة قديمة صمّمها الهواء وأطفاله فوق كتفيه، ولم تفكر الشمس ولا الهواء ولا موسيقا “الغراموفون”، بأن يغدو كل شيء هشًا ورماديًا أمام الحرب، لم تتخيل سياراتكَ القديمة يومًا، أنها كانت تمشي فوق هذا العبث، هل كان علينا أن نستعين بالسّجان؛ كي يصمّم لنا نوافذنا؟

الرسائل المطويّة المخبأة في الخزانة، كبرت علينا وصارت تتكلم لغةً جديدة.

صورُ من نحب، صورٌ لغرباء، صورٌ لمدنٍ لم نَزرها، كل ما أنقذناه من الضياع وصنعنا له بيتًا، اختلف عنّا، تتسعُ نظرةُ أمكَ في صورةٍ تحتفظ بها في حقيبتكَ، تضحك لكَ أحيانًا، وتصمت في وجهك أحيانًا أخرى، الصورُ ستبتعد طالما هي طريقتنا في الأمل.

اللقطة بكت من ثلاث عيون:

العين الأولى: صمتكَ الطاغي على الحركة الناتئة من الحواف والأرضية والسطح والزوايا، يتمشى صمتكَ مع قطة بيضاء وسط الفوضى السوداء، ويفكرُ بتغيير الأغنية.

العين الثانية: الموسيقا القاتلة، التي ولأولّ مرة أراها تحملُ سكينًا وتدافعُ عن بيتها، توسطت الموسيقى كوحشٍ ذاك الفناء الموحش، حمَلتك بين أسنانها أنت وقطتَك وغليونكَ وصمتكَ، مكشرًة عن أنيابها في وجه الخوف، كلُّنا سمعنا تلك الصرخة والتصقنا بالمشهد.

 

العين الثالثة: اللونُ الأبيض الرماديّ المائل إلى بياض شعرك، المتكئ على الحنين، حمل الأحجار على كتفيه مجتازًا الضفة، من الحزن إلى الرغبة، من الركام إلى الجمال، من طريقٍ جنائزيّ بنعوشٍ مجهولة، إلى طريق تمشي فيه عروسٌ واحدة مع باقة أزهارها.

الأحجار في قاع النهر الجاف تقلدُ السمكة، والأحجار تحت سريرك تصيرُ لوحة الحائط الذي كانت تُسنِدُه.

الناس مازالوا يسيرون بمحاذاة النهر، وليس فوقه، لا شيء يموتُ حقًا كما نتصور.

مرّت مشاهد بصريّة كثيرة منذ بداية الحرب، سالت من النبع ذاته إلى المصبِّ ذاته، يتكرر الألم ويختلف الإطار، لماذا نعيد تشكيل تلك التفاصيل في صورٍ، مع أننا رأيناها بأمِّ أعيننا، أو سبق لنا وعشناها، لماذا نحتفي بأقوالها؟

الرجلُ في الصورة يحتفي بالتحف في بيته ويعشق السيارات القديمة، إنه المغزى ذاته من الصورة التي التُقطت له بين ركام بيته، فوق الأحجار، قرب السرير المكسور.

هو كان يعيشُ مواجهًا الموت بنقيضه، بذكريات الآخرين الذين سبقونا إلى هذه الحياة، وتركوا لنا أنفاسهم داخل كل غرضٍ من أغراضهم، والصورة التي التُقطت لهُ تعبيرٌ آخر عن كلِّ هذا، هو يؤرخُ الحياة، والصورة تُلقي الموت جانبًا وتعتني بزهرةٍ نبتت للتو.

أنا أيضًا مثلُ ذاك الرجل، مثل الطبيعة، أحتفظُ بالصورة داخل ملّف خاص، وأسميها “حلب”، مرددًة مع “دوغلاس ديفيز” في كتابه تاريخ الموت: إن أيَّ تاريخٍ للموت هو في الوقت ذاته تاريخٌ للأمل.

مقالات ذات صلة

إغلاق