إن غياب الديمقراطية، والاستئثار بالحكم، وتجاهل حقوق الإنسان في سورية، وازدراءها طوال عقود طويلة، دفع الشعب السوري الى الثورة ضد الاستبداد والفساد؛ مطالبًا بالحرية والكرامة والديمقراطية. هذه الثورة التي واجهها النظام الاستبدادي باستخدام مفرط في القوة استخدامًا واسعًا وممنهجًا، فاتحًا أبواب البلاد على مصراعيها للتدخلات الأجنبية، حتى وصلت إلى حال من الفوضى والضياع والتفتت، تهدد وجود الدولة السورية أرضًا وشعبًا.
إن جل ما تطمح إليه السوريات والسوريون اليوم، بعد هذا الدمار الرهيب المستمر في الممتلكات والنفوس، هو وقف الحرب أولاً، ورحيل نظام الاستبداد، وإخراج المسلحين الأجانب كافة، وإطلاق سراح المعتقلين، على خلفية الأحداث التي تشهدها البلاد، وعودة المهجرين واللاجئين.
الواجب الوطني والأخلاقي والإنساني يفرض علينا جميعًا العمل -بكل ما نملك من قوة- لوقف هذا النزاع المدمر، والتوصل إلى تسوية تاريخية، بعيدًا عن الاستبداد والمظالم والقتل والعنف والكراهية والتخوين والإقصاء والإلغاء والتكفير والتخوين، بالتزامن مع البدء بعملية إعادة الإعمار، وإصلاح مؤسسات الدولة ولا سيما الجيش والشرطة، وإعادة هيكلة قوى الأمن وفقًا لمبادئ الحوكمة، وأهمها الشفافية والعدل والمساواة.
ما جرى ويجري اليوم، سواء في جنيف أم أستانا هو عكس ذلك تمامًا، فروسيا ومعها حلفاؤها يعملون -بكل قوة- لفرض تسوية تعيد إنتاج نظام الأسد من خلال إلهاء السوريين بمسألة صوغ دستور جديد، وفرض تشكيل حكومة برئاسة الأسد، بعد تطعميها ببعض الوجوه المعارضة، وعفى الله عما مضى، على غرار اتفاق الطائف اللبناني، وذلك؛ لقطع الطريق أمام أي مطالبة بمرحلة انتقالية، ومحاسبة من أجرم بحق الشعب السوري. مع الإشارة إلى أن صوغ دستور جديد يحتاج إلى استقرار وهدوء غير متوفرين الآن.
ما يحتاجه السوريون اليوم، ليس ما تحاول روسيا فرضه، بل إقامة هيئة حكم انتقالي تبدأ بإعلان وقف إطلاق نار حقيقي على الأراضي السورية كافة، والاتفاق على قيام مرحلة انتقالية تبدأ بإخراج المسلحين والقوى الأجنبية كافة من البلاد.
تحتاج البلاد إلى مرحلة علاجية، لا تقل عن سنتين؛ لمساعدتها في وقف الانهيار المتسارع في المجتمع، ووضعها على طريق التعافي من هذه المأساة الرهيبة التي تعيشها. تلك المرحلة العلاجية تحتاج إلى تضافر جهد المؤمنين بوحدة سورية، أرضًا وشعبًا، ولن تتعافى سورية من محنتها، إن بقي في الحكم من أسهم في تدميرها، وكان بإمكانه تفادي ذلك، ولم يفعل.
والاتفاق على مرحلة انتقالية يجب أن يتبعه فورًا صدور قرار بإطلاق سراح المعتقلين على خلفية الأحداث التي تشهدها البلاد، وإعلان وقف العمل بالدستور الحالي، ووقف العمل بالقوانين والمحاكم الاستثنائية المقيدة للحرّيات، وإصدار إعلان دستوري موقت، يتضمن عددًا من المبادئ الأساسية لا تتعدى أصابع اليدين، تؤكد الالتزام بوحدة واستقلال سورية وتنوعها الثقافي والقومي والديني، وعلى مدنية وديمقراطية الدولة، ومبدأ تدول السلطة سلميًا، ومبدأ سيادة القانون والمساواة فيه وأمامه لجميع السوريات والسوريين، والالتزام بمبادئ حقوق الإنسان المنصوص عليها في جميع الاتفاقيات والمواثيق الدولية، ذات الصلة بحقوق الإنسان، ولا سيما المتعلقة بحقوق الطفل والمرأة وحرية الرأي والتعبير والفكر والاعتقاد، وعدم التمييز بين السوريات والسوريين، لأي سبب كان، وتأكيد استقلالية القضاء بصفته الضامن للحرّيات والحقوق، وعدم إصدار أي قانون أو تشريع ينتهك هذه المبادئ.
يجب أن يتضمن الإعلان الدستوري طريقة تشكيل الحكومة الموقتة التي ستكلف بإدارة البلاد خلال المرحلة الانتقالية، على أن يراعى في تشكيلها التنوع السياسي والقومي والديني للسوريين، ومنحها -مجتمعة- جميع الصلاحيات التنفيذية، وبعض الصلاحيات التشريعية، بما لا يتناقض والمبادئ والأحكام التي نص عليها الإعلان الدستوري.
وفور تشكيل الحكومة، تعلن قبولها جميع المساعدات الخارجية غير المشروطة، وتباشر بإعادة بناء ما تهدم، وتهيئ الأوضاع الملائمة لعودة جميع اللاجئين بأقصى سرعة ممكنة، وتعيد تأهيل وتشغيل الإدارات والمؤسسات، وضبط الأمن، وعمل كل ما من شأنه تخفيف المعاناة عن السوريين، وتعيد هيكلة السلطة القضائية وتحقيق استقلالها، وتعلن الحكومة عن خطتها لسحب السلاح، وحصر استخدامه بقوى الجيش والأمن، على أن يُعاد تأهليهما على أسس وطنية احترافية، وإخضاعهما لسلطة الحكومة ورقابة السطلة القضائية، وإحالة من توّرط منهم بقتل السوريين إلى المحاكم.
ويجب أن يتضمن الإعلان الدستوري أيضًا النص على إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية، يأتي في مقدمة مهماتها إطلاق سراح جميع المعتقلين والكشف عن المفقودين، وإنشاء صندوق لتعويض الضحايا، وإجراء مصالحة وطنية وتخليد ذكرى الضحايا، وتشكيل محاكم وطنية لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب، أو الجرائم ضد الإنسانية، وغيرها من الانتهاكات الخطِرة لحقوق الإنسان، على أن تستمر هذه الهيئة في عملها حتى إتمام عملها.
يجب أن ينص الإعلان الدستوري على تشكيل جمعية وطنية، يُنتخب نصف أعضائها من الشعب، ويُعيّن النصف الأخر بالاتفاق، على أن يكونوا من المختصين والتقنيين، وتتلخص مهمة هذه الجمعية في العمل على إصدار قانون للانتخابات، وصوغ مشروع دستور جديد للبلاد، وحال انتهاء الجمعية الوطنية من صوغ مشروع الدستور، تسلًمه للحكومة الموقتة التي تعرضه على الاستفتاء الشعبي العام، وبعد أن يحوز الدستور على موافقة الشعب، تهيئ الحكومة الموقتة الأجواء الأمنية والسياسية والإعلامية، لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية تحت إشراف ورقابة منظمات المجتمع الأهلي المحلي والعربي والدولي. تنتهي مهمة الحكومة الموقتة حكمًا بعد إعلان نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية وتشكيل الحكومة الجديدة.
أخيرًا، إن عدم قيام مرحلة انتقالية، واختصار المأساة السورية بمسألة صوغ دستور جديد، يفاقم مأساة السوريين، ويفتح الباب أمام مزيد من الخلافات السورية – السورية نحن في غنى عنها. الشعب السوري لم يقدم التضحيات الهائلة؛ لأجل أن يبقى تحت حكم نظام الأسد ولا أن يستبدله بطاغية آخر مهما كان شكله ولونه.