الحب جزء من وجدان الطبيعة، إنه شهقة الوجود.
الأدب والفن هما المجال الوحيد الذي تلتحم فيه ذات الإنسان بذاتها. تجعله عصفورًا صغيرًا يبحث عن الخلود في الزمن، يرحل، يطير، يحط فوق جداول المياه، بين الوديان باحثًا عن نسمة يغذي بها ريشه، ويقظته الصباحية.
والرواية هي المدخل لتعرية وجع الحياة، والرموز الثقيلة العالقة في “دفف” جدرانها الخفية. هي فضح للمخبأ والضائع والمستتر. إنها دفع قوي للعري كضرورة، أنه عودة إلى الذات، إلى الولادة والذاكرة الأولى، إلى الحقيقة والطبيعة.
إن مملكة الحرية كامنة في هذا العري، قبل أن يُخبأ وُيطمَس، ومن ثَمّ؛ تفقد الأبدية براءتها.
البراءة هي أس الحياة الطبيعية، مدخل إلى الطبيعة قبل أن تتأطر وتتحول إلى قانون وفق مقاسات محددة.
رواية سيرة الانتهاك للروائي السوري، أيمن مارديني، دخلت أرضًا عذراء، أرض الله. إنه الحب. الحب قدر لا فكاك منه. إنه كالماء والزهر، النهر والشمس، النجوم والسماء والغيوم. كالنهار الذي لا يستطيع الهروب من ضوء النهار، من ضوء الشمس، من ذاته. والجنس، الذي لا يتجرأ -إلا القلة- على ملامسته أو الاقتراب منه بهذه الشجاعة والإبداع.
دخل المجهول، العري، الجمال الأول، ذلك الذي كان منكشفًا قبل الستر والانتقال إلى العتمة: “إلا أنني انجذبت إلى ما يحدث في ضوء النهار، وليس تحت ستائر الليل. أجبرني على خلع ملابسي، وبدأ في اللهو غير البريء” ثم تابع “بل هو البراءة، الرمز الوحيد في حياتي”.
مَن من الأطفال لم يمارس هذه اللعبة اللذيذة، عندما كان الوعي حرًا طليقًا، يتناغم مع نسائم الصباح وجلال اليقظة الأولى؟ وهل هناك طفل لم يفعل هذا؟ ومحاولة الدخول إلى أكتشاف الذات المجهولة في الجنس. والبحث الأول، التخيل، وتمرير الذات في الكلمات، كامتصاص لهذه الرعشة الأولى للوصول إلى المعرفة: “تعلمت المفردات في اللغة من الإيحاءات الجنسية التي استهوتني في يفاعتي. كم من مرة استثرت. تهيجت”…. “واندفاقات شهوية اعترتني عند سماعي تلك الكلمات”…. ” دائمًا استعيدها داخلي في الخلوة، واستلذ بالسرية المستعادة”
ودائمًا كان بطل الرواية يبحث عن ذاته المفقودة، عن تلك الشفرة، المكمن الأولى للوجود، ليتسلل إليها ويرى صورته، وجهه المتألق.
إن نهم الإنسان كان وما زال، هو البحث عن ذلك المفتقد، تلك الحسرة اللاشعورية التي تغفو وتعود. الحلم الضائع والبحث المضني عن التكوين الأول، الرعشة التي انبهق منها هذا الكون.
هذه الشفرة، هي المدخل إلى الانفتاح والتعمية، تجعل الإنسان قلقًا، متوترًا غارقًا في حب المجهول والبحث عنه. والجنس مدخل إلى الجمال والحرية. ففي كل لقاء بين محبين، هناك نهم للاكتشاف، ومحاولة لا شعورية للدخول في عمق الأبدية والوجود. عبر هذا الجسد، جسد الحبيب، ندخل إلى حدود اللامحدود، إلى ذلك المكان المترامي الأطراف. إن حب الأكتشاف هو الغاية الحقيقية، محاولة الوصول إلى الشهوة الأولى، الحقيقة، والسباحة في الكون.
وجسد المحبوب مدخل إلى ذلك الضوء البعيد عن متناول اليد. بحث حثيث عن اللاشعور. ففي كل لقاء بين المحب والمحب، هناك جسد أخر، معرفة جديدة، تداخل وانفصال، واندغام وانحسار تقارب وتباعد ورغبة عميقة في الوصول إلى الحقيقة. ففي هذا الجسد، الأبدية، نرى ذلك العالم الـ “لا مرئي” ولا نراه: “جردني من ثيابي. نزع عني الحياء والخجل”. هذا الحياء هو الحاجز، الغلاف الحضاري، القناع الذي شوه الإنسان من داخله وخارجه، وجرده من إنسانيته، وحوله إلى كائن مستلب، يبحث عن الحرية في الـ “لا حرية”. “أصبحت دون غطاء أحتمي به من ضوء شمس أغرقتني في الخطيئة، وعلى مرأى منها، ومني، ومن العالم. لم يحرك أحد ساكنًا، والكل لم يعلم فحسب، بل الكل اشترك في الجريمة الانتهاك على الجسد والروح، بل على الماضي والحاضر الذي غرقت فيه دون إرادة مني، دون وعي، ودون أسلحة يمتلكها طفل جُرد من الطفولة”.
وهل هناك خطيئة في هذه الحياة، وما هي؟ وهل مداعبة الحياة وجمالها عبر الجسد الجميل خطيئة؟ ومن يحدد ذلك؟
السعادة في هذا الحاضر ليست جزءًا من التكوين النفسي للإنسان. إنه يستجديها؛ لذا، هي خارجة عنه، يسعى جاهدا للوصول إليها. والشيء الذي لا ينبع منك وفيك لا يعول عليه.
في العلاقة مع الجسد نتحول إلى إنسان، نتجول بعيدًا، نبتعد عن الأرض وثقلها. يخف وزننا النوعي والكمي، نحلق ونطير في عوالم أخرى: “إلى من زرع الشهوة، وأظهر العورة. إلى من قطفنا على مرأى منه الثمرة، ولم ينهنا. لنزداد رغبة، ونشتاق إلى الرغبة”.
وهذه الحضارة تميع حياتنا، تجعلنا خارجها على الرغم من أننا في داخلها، نكبت ذواتنا، ونقمع الرغبة على الرغم من أنها توحدنا: “ونكبتها أيضًا تلك الرغبة الكامنة. الملتحفة خلايا الروح”.
تذهب الرواية بعيدًا، تتناول الجانب النفسي للإنسان، اختبار الطفل لجسده في المراحل الأولى لحياته، الانتقالات النوعية، كانتقال الرغبة من الداخل، الكامن إلى الخارج والإعلان عن ذلك، أي من الذات الأمنة والمجهولة إلى الوسط العام، المعلوم. أي: إنها مجمل العلاقات التي يمر بها الطفل ما بين الكبت والتعبير عن الذات. والصراع بين الأنا الأعلى الذي ينظمه قمع المجتمع ومحاولة التمرد عليه.
ويمضي بطل الرواية في التمرد على الواقع وشروطه: “أعلن، وعلى الملأ، أنني لست أبنًا شرعيًا له، وأن ما أتى بي إلى الحياة هو فعل اقترفته أمي ذات طيش”. كأن البطل أراد قتل الأب عن سابق اصرار وترصد. وأدخل العشيق إلى مخدع أمه برحابة صدر. ومن خلف ثقب الباب، جلس يسترق النظر والسمع حسرةً وخوفًا من أن يلتفت إليه أحد ويفعلها به. وكأن عقدة أوديب تحلق في سماء الرواية برؤية معاصرة.
الرواية قصيرة لا تتجاوز المئة وثماني صفحات، بيد أنها مكثفة، متمردة نابضة بالحياة، غنية. تدخل الأماكن السرية والمجهول.