كثيرون، وأنا منهم، يرفضون أن يتحول الفنان إلى بائع، والمنتَج الفني إلى سلعة، والمَرَافق التابعة إلى سوق، لأن الأعمال الفنية لا تقدر بثمن معلوم، وهي “ما فوق سلعة” وخارج قوانين “البازار” المادية النفعية، فالذي يحدد سعر السلعة هو الجهد البشري المبذول فيها، والفرق كبير بين الجهد العضلي المبذول في صنع حذاء والجهد العقلي المبذول في إبداع لوحة فنية! لكن رفض التسليع بات -اليوم- “دونكيشوتيًّا” إلى حد بعيد! فمنذ أن انتصرت البورجوازية والأشياء كلها تتحول إلى سلع تُباع وتشترى..
لقد نجح رأس المال في استثمار الإبداع، فأسس الشركات الضخمة المتخصصة في إنتاج وبيع وشراء وتسويق الأعمال الفنية: التشكيلية والسينمائية والتلفزيونية والموسيقية والغنائية والمسرحية والأدبية.. مستخدمًا الدعاية إلى أقصى مدى، بعد القفزة التكنولوجية العملاقة للإعلام (الذي كانت وظيفته الأساس تسويق السلع)، مستخدمًا وسائله المتنوعة: تلفزيون انترنت شبكات تواصل اجتماعي… ما جعل التنافس الإبداعي قويًّا، لدرجة كرّس فيها مقولة البقاء للأقوى والأجدر، وربما الأذكى! كما خلقت قوانين السوق ديناميات جديدة، وآليات ملائمة، وبنية تحتية كان الفن بحاجة ماسة إليها: مسارح متنوعة، استديوهات تصوير سينمائية وتلفزيونية، مشاغل، ورش عمل، محترفات ومعاهد عليا متخصصة، تكنلوجيا فنية متطورة، رأس مال، دعاية، تسويق، تنوع، انفتاح، ونقابات مهنية، وحماية ملكية، وسيادة قانون… يضاف إلى ذلك كله، مناخ ديمقراطي يكفل حرية التعبير والتشكيل والتجريب والنقد والتنوع والحضور الثقافي والتفاعل الجماهيري؛ ما حرر الطاقات الإبداعية وأطلق العنان لمخيلة الفنانين وأفكارهم، فأصبح الجميل والعميق والمؤثر، هو السيد والمستبد الوحيد. وقد أدى ذلك كله إلى حراك ثقافي واجتماعي غير مسبوق، حقق إنجازات كبيرة وقفزات سريعة، لم تعرفها المجتمعات البشرية من قبل، وخاصة في مجال الثقافة والفكر والفن.
وكما أسقط التنافس الاقتصادي رؤوس الأموال الصغيرة و”الدكاكين” التجارية البائسة، أسقط –كذلك- “الفنانين الصغار”، وأشباه المبدعين، الذين كانوا عبئًا على المجتمع والحركة الفنية في بلدانهم، ووقودًا لأنظمة الاستبداد والانحطاط في بلادنا! وبات الفن “البورجوازي” ساحة لا يستطيع الصمود فيها إلا أصحاب المواهب الحقيقية والمشاعر الإنسانية العميقة، الذين تمكنوا في النهاية من نخر الجدار الإسمنتي الصلد لهذا النظام الرأسمالي المتوحش، وتفوقوا عليه -بواسطة الفن- أخلاقيًا ومعنويًا وإنسانيًا.
وهكذا، لعب الفنانون دورًا كبيرًا ومهمًا، وقدموا أعمالًا إبداعية غنية خالدة، في ظل ليبرالية، قد تكون مخادعة بالمعنى السياسي، غير أنها شكلت مناخًا ملائمًا للفن والفكر والثقافة والحراك المدني. فلم يعد الفنان مطاردًا بسبب معارضته للسلطة، أو بوقًا -فحسب- بسبب ولائه لها، بل تفرغ لمشروعه الفني وحرر طاقاته الإبداعية، فأنجز أعمالًا عظيمة جعلته رمزًا لشعبه وبلده. وأصبحت تلك الأعمال الفنية جزءًا مشرقًا من التراث الثقافي الخالد للإنسانية جمعاء. فالبشرية اليوم، تذكر مايكل أنجلو أكثر من أسرة آل مديتشي، وتذكر شكسبير أكثر من الملكة إليزابيث، وتذكر راسين وكورنيه وموليير أكثر من لويس “ملك الشمس”، وتعرف هاوبتمان وبريخت أكثر من هتلر وغوبلز، وإزنشتاين وميرخولد أكثر من ستالين وربيبه جدانوف، وبابلو نيرودا وإيزابيل الليندي أكثر من الجنرال بنوشيه، ولوركا وبيكاسو أكثر من الجنرال فرانكو… الخ.
ولو ألقينا نظرة على الفن في ظل الاستبداد المتخلف، لوجدنا أنه يتعاون مع رأس المال الفاسد، ليؤسس للابتذال والتفاهة والشعارات الوطنية الطنانة الفارغة، حيث يقرب أشباه الفنانين والعبيد، ويحارب الموهوبين والأحرار، ويؤسس لجمهور “قطيعي” ساذج بلا ذائقة، لا يتقن إلا التصفيق وهزّ الرؤوس، فيتحول عبر السنين الطويلة إلى حاضنة وحصن لفن السلطة الهابط وفنانيها المبتذلين..
فهل يتمكن الفن في مثل هذا المناخ الفاسد، من التحول إلى سلعة؟
قد يتبادر إلى الذهن أن الانحطاط ملائم -تمامًا- لجعل كل شيء قابلًا للبيع والشراء: الضوء والهواء والأرواح والقيم الأخلاقية، إلى جانب “العلكة والشامبو ومحارم التواليت والبارفانات الرخيصة “… لكن الحقيقة غير ذلك، فمن شروط السلعة الجودة، والجودة تحتاج إلى معايير وقيم إنسانية، تفتقدها هذه الأنظمة أصلًا، ولا تتوافر وتنتعش إلا في ظل الحرية والمنافسة والأخلاق المهنية والمواهب الفنية والذوق الرفيع… وأول ما تقوم به أنظمة الاستبداد المتخلفة بطبيعتها، هو قتل هذه المعايير والقيم، وتحويل الشعوب إلى قطعان تأكل وتتناسل وتنافس على تمجيد القائد، كما تتنافس على تلك السلع الاستهلاكية والمستوردة.