أدركَت فطرته أن لا مناص من التغيير الآن.
توهّج النصلُ كضارٍ خائف استشعر الخطر.
“هاك صدري”.
توتّر النصلُ وازدادت نبضات بطشه.
“إليك ظهري”.
انقض النصل متعرقًا يحرث كابوسًا مرعبًا استيقظ أمامه توًا.
“لا تُخطئ قلبي”.
استفزّ السكّينُ همس الطين للدم المسفوك بكبرياء: “هوّن عليك يا دمي، إني أستحمُّ بك فلا ترثِ لحالنا، حسبي ألا تبخل علينا بالنزيف، بلل خلاياي أكثر، دعها تلين، علّنا نُطفئ ظمأ سنين القحط، لا تخف سنجفّ ما إن تشرق الشمس”.
على الرغم من عشوائية الطعنات، والفوضى العارمة في توزّعها، وتقاطع الجراح على الجراح، واختلاف وادي الدم -عمقًا وعرضًا وغزارة وحرارة- آمن الرُقُم قيد الولادة، أن في ذاته، في غورها وبُعدها، صورة أخرى غير ما تبدو عليه للعابرين المثقلين بالخوف والهزائم أو باليأس، وحده، ومن تفرّس فيها كقارئة فنجان خبيرة فحسب، رآها بوضوح.
لا شكَّ يخالجه من حمله -أخيرًا- في صفحته الملتهبة، معنًى مختلفًا للتراب، إعمال نصال، جراح، نزيف، ألم، ودمع وشمس، ثقة الطين بآلامه، أنينه المنخفض الممتزج بالرغبة والمزيد، هي سُنّة التكوين، وحال التغيّر، كما يرى.
أربك السكين، جعله يصرخ بحدة: “لماذا؟”، مُعملًا النصل حتى القِراب.
“آخ، إنك داخلي، فيما صراخك؟!!”
“تعرفُ أني لا أجيد إلا هذا!” قالها النصل مُسوّغًا، في أثناء طعنه للطين، بما يشبه الاعتذار:
“آخ، أعرف، لكني مللت السكون والخَدَرَ وعدم الاحساس”.
“لكنك تنزف وتتألم الآن”.
“آخ، غير أني بتُّ أشعر من جديد.”
“هل كان هذا يستحق؟!”
“آآخ، هل تعرف -يا صديقي السكين- آلام الدودة لحظات انسلاخها عن شرنقتها؟”
“لا، هل هي لحظات مؤلمة؟”
“آآآخ، ليس بقدر ألمها فيما لو بقيت دودةً، تنظر إلى الفَراش يطير، هذا ما أثق به”
“ليتني أستطيع فهمك” وأجهش النصل بالبكاء.
“آخ ليتك تستطيع”.
“أخشى صدئي بموتك”.
“آخ، لا عليك؛ الطين لا يموت”.
هي ذي، جاءت جملته الأخيرة، ثلمت حدّ السكين، فذاب النصل في أحشاء الطين، وبدأ بخار حار يصعد نحو السماء.
ما عدّه السكين طعنًا، مُسوّغًا لنفسه ممارسة وظيفته التقليدية، فضّلَ الطين عدّه نقشًا لأبجديته الجديدة، أدرك أنّ تألّمه من طعنات شريكه في رسم اللوحة، تساوت مع خوف السكين ورعبه، ومع قساوته، وشدّة تصلّبه، وجفافه، وصمته زمنًا طويلًا، لكن يقينه بزوال الألم والشفاء بعد حين، تصبّره ربما، جعلت جراحة تجفّ مفتوحةً غير مندملة، فكان لها أن شكّلت هويته الجديدة، بعد أن كان مفكّكًا مثل الدقيق، باهتًا كلون الفراغ، خفيف الوزن، سخيف المعنى، مُداسًا.
فهمُ الطين دور السكّين وطبيعته، أعانه على احتمال آلام المخاض حتى ولد الرُقم.
أصبح للطين نشيدٌ جديدٌ الآن، واكتشف السكين وظيفة أخرى غير القتل. بينما كان الدم -سيّد التغيير- قد توقف عن النزيف مستمرًا في الجريان، صامتًا، همّه شروق الشمس، يرقب بشغف مرور قافلة الشهداء؛ كي يصبح أخضر، فقد أدركت فطرته أن لا مناص من تغيّره الآن.