هموم ثقافية

قص.. لصق

ذات يوم كانت القراءة تفضي إلى الكتابة، قراءة ما نراه، قراءة ما نسمعه، قراءة ما نفعله، ما نخافه، ما نطمئن إليه، ما نحبه، ما نكرهه، وتُختتم كل هاتيك القراءات بلزوم ما يلزم: قراءة الكتب. فالإصغاء إلى ما تقوله الكتب، إضافة للمتعة، والمعرفة، فإنه المكان الوحيد الذي يمكّننا من معرفة الكيفية التي يتحول فيها مقروء الحواس، مضافًا إليه ما يقوله الخيال، إلى رموز. وهذا ما جعل كاتبا مثل هنري ميلر يقول: إن أحد المغريات الكبيرة للكاتب هي أن يقرأ حين ينخرط في تأليف كتاب، ويبدو لي أنه في اللحظة التي أبدأ فيها بتأليف كتاب جديد أطور هيامًا بالقراءة أيضًا”. لهذا كان مقياس الإبداع يتمثل أحد وجوهه في قدرة الكاتب على التلقي، أي على القراءة. ومن ثم يموت المشهد لتعيش الصورة التي رسمها الكاتب. وهكذا تصبح أصالة الكاتب قائمة على قدرته على قراءة المشهد من زاوية لم يتمكن غيره من رؤيتها، وإعادة إنتاج المشهد بصيغة ما؛ قد تكون قصة أو رواية أو قصيدة أو دراسة إلى ما هنالك من أشكال أدبية أو فكرية.

فالكاتب لديه قدرة فائقة على قراءة ما حوله، ومن ثم تحويل المقروء إلى مكتوب، وهذا المكتوب الجديد– القديم، سيتقاطع -حتمًا- مع كتب أخرى، لكتّاب آخرين، في الأسلوب، أو المحتوى، لهذا كان التفرد في عالم الكتابة نادرًا.

هذا هو المتن، في الهامش ترى العواصم مثقلة بأطرافها، حيث ترى إنتاجًا إبداعيًّا يولد بإعاقات من الصعب التغلب عليها، إعاقات في الموهبة، إعاقات في اللغة، إعاقات في الفهم، في طريقة التلقي، في تقييم الإمكانيات الشخصية، فيتحول الإنتاج المعرفي إلى عمل من لا عمل له!! وقد وفّرت بعض الصحف مراحًا لتلك الإعاقات، ومن ثم جاءت مواقع الإنترنت، لتستوعب من بقي خارج استثمار صحافة الدرجة الثالثة، ولم تتوقف ثورة الاتصالات عند ذلك، فجاء مارك زوكربيرج، وموقع الفيس بوك الذي منح كل الراغبين صفحة على ذلك الموقع، تستوعب كل ما يخطر في بالهم من أفكار وصور ومقاطع فيديو، وإمعانًا في التطرف، رُفعت الرقابة عن ذلك الفضاء الافتراضي، فكان حاملًا موضوعيًا للعلاقات الاجتماعية، والمساجلات الثقافية والسياسية، دون أيّ مساءلة نقدية أو قانونية!! وإذ بنا وجهًا لوجه نحن والعبثية الجديدة!! وجها لوجه نحن وهذا العالم الذي ليس له حدود جغرافية، والتحولات التي طرأت على حياتنا بعد أن صرنا من مستخدميه الـ 1.59 مليار نسمة!! وإذ بنا أمام كتّاب جدد، كتّاب وجدوا أنفسهم في هذا الفضاء، لا بل اكتشفوا أنفسهم هناك. واكتشفناهم أيضًا!! وكتاتيب وكويتبين من الجنسين، وليس مستبعدًا أن يكون بينهم من الجنس الثالث أيضًا!! وفي غمرة هذا السباق المحموم انتشرت ظاهرة القص واللصق، وكل قصّاص له طريقته في القص، بعضهم يقصّ المعنى، وبعضهم يقصّ التركيب، ومنهم من لم يكلف نفسه العناء، فقصّ النص كما هو، ووضعه على صفحته، ليبقى على تواصل مع جمهوره المفترض!! فسقط عنهم المثل العربي الذي يقول: “تمام الصنعة في إخفائها” وكأنهم استجابوا لما قالته الكاتبة الفلسطينية عدنيّة شبلي: ظننت أن على كل الناس، ما إن يتعلموا الكتابة، حتى يصيروا كُتّابًا” إلّا أن عدنيّة اكتشفت أن الكتابة ليست لعبة، لكنها المطرح الذي يجعلها تعرف كيف تعيش” ، ليتهم عرفوا ما عرفته عدنيّة، وأدركوا قوانين وحدود أدواتهم  التي هي -في الحقيقة- مفتوحة على فضاءات لا نهاية لها، والكنز موجود لدى الجميع، ما عليهم سوى استثماره، وكتاب فانسنت فان كوخ “عزيزي تيو”، أحد الأمثلة التي لا تشوبها شبهة، لم يكن ذلك الرسام الهولندي يعرف أن تلك الرسائل ستتحول إلى كتاب يجوب الآفاق، لقد كتب لأخيه دون تحفظ، كتب آلامه وأحلامه ورغباته وإحباطاته، كتب ذاته بتلك الملكة النادرة، ومن دون أي ادعاءات أدبية، فكان كتابه مثار دهشة الفنانين والأدباء على حد سواء!!  فالحياة مصدر الإلهام الأول، والأهم، إنها التجربة الحيوية، المتاحة لكل الأحياء. وسأعود إلى هنري ميلر ثانية، وأختم بقوله: إن أعظم درس ينبغي تعلمه في هذا العصر الذي يؤمن بأن هناك طريقا مختصرًا إلى كل شيء، هو أن الطريق الأصعب هو الأسهل، على المدى الطويل.

مقالات ذات صلة

إغلاق